دكتور الوليد آدم مادبو

“*القوة لا تأتي من المقدرة الجسدية، بل من الإرادة التي لا تنكسر.*” المهاتما غاندي

حين يكتب المرء عن السجون، فإنّه لا يكتب عن جدرانٍ عمياء ولا عن قضبانٍ صمّاء، بل عن لحظةٍ كبرى في تاريخ الروح. والسجن، في ذاكرة الشعوب، ليس مكانًا يُختَزَل في هندسة من حديد وأسمنت، بل هو مرآة تعكس ما يعتمل في أعماق الأمم من صراعٍ بين الحرية والقهر، بين الصدق والزيف، بين الشجاعة والجبن.

سجن كوبر

بهذا الأفق العالي أطلّ علينا كتاب صديقي وعمي الحبيب *صديق محيسي* عن سجن كوبر. لم يكن الكتاب مجرد محاولة للتوثيق في زمنٍ شحّت فيه الإمكانيات وضاقت فيه المراجع، بل كان بمثابة جسرٍ من الكلمات يعبر بنا إلى أرواح الذين ناضلوا هناك، وصوتًا للذين صمتوا تحت وطأة التعذيب والإقصاء. لقد ألقى محيسي بحجر في *بركة الذاكرة الراكدة*، فأيقظ ما حسبناه قد غاب، وأعاد إلينا السجن لا كحائط، بل كجرحٍ مفتوح على التاريخ.

لقد نزَع الكتابُ عن نظام الإنقاذ آخر ورقة توتٍ كان يتستّر بها. جرّده من أي مشروعيةٍ أخلاقية أو دينية، وأبان أن *“المشروع الحضاري” لم يكن سوى سرابٍ في صحراء القمع*. أكثر من ذلك، فقد دحض زعم الترابي أنّ الشعب السوداني شعب جبان؛ فالذين زُجّ بهم في كوبر أو في بيوت الأشباح لم يهنوا ولم ينكسروا، بل ظلّوا واقفين، يواجهون الموت بقلوب شامخة. فإذا كان هنالك من جبنٍ فهو جبن الإسلاميين أنفسهم، أولئك الذين استأسدوا على العزّل والمسالمين في ميدان الإعتصام وفي غيره من غياهب المكر، ثم ما لبثوا أن تهاووا حين حمي الوطيس، فهرب قادتهم من سجن كوبر مزاحمين القتلة وقطاع الطرق، بلا حياء ولا خجل.

ومع ذلك، فإنّ العين المحبّة لا تُغفل مواطن النقص، حتى وهي تنحني تقديرًا أمام عظمة الجهد وروعة المقصد. ففي بعض المحطّات بدا السرد متعثّرًا، كأنّ الحكاية التي تنوء بحمل العذاب تثقل خطى الكاتب نفسه، فتفلت منه خيوط الحبكة وتفقد شيئًا من تماسكها الداخلي. غير أنّ ذلك لا يقلّل من *القيمة التاريخية للكتاب* بقدر ما يعكس صعوبة القبض على مأساة بهذا الحجم، مأساة تمسّ أرواح أمة بكاملها.

كما أنّ الإطار المفاهيمي لم يبلغ في مجمله الصرامة والجزالة التي يستحقها المقام السامي للكتاب. كما لاحظت تسرّب بعض التراكيب الرخوة بين السطور، التي تعثرت في إيقاعها، ففقدت شيئًا من البراعة التي تناسب *شهادة عن قهرٍ يطال العلماء والمناضلين الشرفاء*. وكأنّ اللغة نفسها قد أُثخنت بالجراح، ولم تعد قادرة على مجاراة هول ما جرى من إذلال وتعذيب وإعدام للرهبان والشجعان على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم.

ثمّ إنّ تركيز المؤلِّف على النخبة السياسية ورموز الحركة الوطنية جعل الكتاب يغفل عن مآسي الغلابة التي لا يجوز إسقاطها من ذاكرة الأمة، أجلها وأخطرها مأساة تسعة من أبناء قبيلة الفور الذين أُدينوا زورًا في قضية اغتيال الصحفي الجريء محمد طه محمد أحمد. *كان إعدامهم أشبه بطعنة في خاصرة العدالة السودانية، ووصمة سوداء على جبين الدولة*. وقد مثّلوا، مع غيرهم من شهداء الطيف السياسي المتنوّع، صورة لبلدٍ لم ينحدر إلى ما وصل إليه إلا بفعل مكر الإسلاميين وإجرامهم وبؤس أفقهم الذي هوى بهم إلى دركٍ سحيق من الانحطاط.

أما الإخراج والتحرير (دار المصورات)، فقد شابته هنّات نحوية ولغوية وأخطاء تشكيلية، أفقدت النص بعض صفائه، حتى ليخيّل للقارئ أنّ الصوت قد اختنق قليلًا وهو يخرج من بين قضبان المطبعة. لكن ذلك لا يغيّب أثر الكتاب، بل يجعل الحاجة أوضح إلى صقل هذه التجربة الجليلة بما يليق بجلال دماء الذين أُزهقت أرواحهم ظلمًا.

غير أنّ قيمة الكتاب لا تكمن في كماله أو ضعفه الفني وحده، بل في كونه *عتبة تأسيسية*، مرجعًا سيعود إليه الباحثون والمفكرون والمؤرخون وهم يتلمّسون تاريخ السجون في السودان. هو شهادة لم تكتمل بعد، لكنها تشبه الشموع الأولى التي تُضيء الطريق، مهما كان ضوءها مرتجفًا.

ولعلّ أجمل ما يثيره الكتاب هو الحلم الذي راودني بما بعد السجن: أن يُمحى كوبر من ذاكرة الخرطوم كمكانٍ للقمع، وأن يُبعث في صورة أخرى، *مكتبة عظيمة تتوسّطها رخامة صغيرة*، تنقش عليها أسماء الذين أُعدموا ظلمًا، والذين سوّاهم الطغاة بالقتلة والنهابين. مكتبة تليق بذاكرة الحرية، لتكون موضعًا يجتمع فيه الباحثون والطلاب والعشّاق، بدل أن يظلّ موضعًا يُستحضر فيه الموت وحده.

ذلك هو معنى الكتاب عندي: ليس مجرد شهادةٍ على الماضي، بل بوابة نحو المستقبل. فالسجون إلى زوال، أما الكلمات التي تُكتب بصدقٍ وإخلاص، فهي التي تبقى.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.