لا تملك النازحة في مخيم كلمة، الذي يبعد حوالي 12 كيلومترًا شرق مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، مريم هارون، الانقطاع عن جمع الحطب والسعف، رغم تعرضها للعنف من مجموعة مسلحة، خشية أن يجوع أطفالها حال توقفت يومًا عن العمل الشاق الذي تقوم به.

تعمل مريم، البالغة من العمر 28 عامًا، في جمع الحطب من مساحات بعيدة عن المخيم، إضافة إلى قطع السعف من أشجار الدوم لتبيعه إلى نساء يصنعن به منتجات يدوية مثل البروش التي تُستخدم للعبادة، والقفاف التي تُعد سلالًا لحمل الخضر والفاكهة، حتى تبعد أطفالها عن ذُل التسول.

تقول مريم هارون، دون أن تستطيع مغالبة دموعها المنهمرة، إنها اعتادت على جمع الحطب والسعف من قرية أبو عضام شرق مخيم كلمة، قبل أن يعترض طريقها في المرة الأخيرة مسلحون ضربوها بالهراوات والسياط ونهبوا الكارو، وهي عربة صغيرة من ثلاث إطارات تُجرها الحمير.

وتوضح أنها تُكابد شظف العيش من أجل إعاشة طفليها بعد أن سافر زوجها قبل ثلاث سنوات، ثم انقطع الاتصال به.

وتعرُّض مريم هارون للتعذيب ليس استثناء، حيث تعاني النساء النازحات من أصناف واسعة من الانتهاكات منذ نشوب الحرب في إقليم دارفور غربي السودان في 2003، قبل أن تتفاقم أوضاعهن بعد اندلاع النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023.

وخلف النزاع القائم واقعًا مأساويًا لدى النساء النازحات، خاصة اللواتي يُعِلن الأسر، في ظل عرقلة أطرافه توصيل المساعدات الإنسانية، مما دفعهن إلى الخروج من المخيمات بحثًا عن العمل رغم انعدام الأمن وتعرضهن للانتهاكات بصورة يومية.

تدمير المزارع  

تؤكد دراسة حديثة نشرتها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في 21 يوليو 2025، أن أزمة الجوع التي وصلت في بعض المناطق إلى حدود المجاعة “ليست محايدة جندريًا، فالنساء أكثر جوعًا وفقرًا ويأسًا من أي وقت مضى”.

وتقول الدراسة إن نسبة الجوع الحاد في الأسر التي تعولها النساء تضاعفت من 14% في العام السابق إلى 25.9% في مطلع هذا العام، بينما تُعاني اليوم 75% من هذه الأسر من انعدام الأمن الغذائي، كما أن 45% من الأسر التي تقودهاه نساء تعاني من استهلاك غذائي ضعيف، بما يعني أقرب إلى سوء التغذية.

وتشير إلى أن نسبة الاستهلاك الغذائي المقبول عند الأسر التي تُديرها المرأة تراجعت من 48% في 2024 إلى 34% في الربع الأول من هذا العام، بينما تعيش أسرة واحدة من بين كل أربع أسر تعولها النساء في ظروف تقترب أو تصل إلى عتبة المجاعة، كما أن 73.7% من النساء على المستوى الوطني لا يحققن الحد الأدنى من التنوع الغذائي.

وتذكر النازحة في مخيم السلام، الواقع على بعد حوالي 15 كيلومترًا جنوبي نيالا، كلتوم أبو بكر، أنها لم يدر بخلدها يومًا ما أن تتعرض لهذا المقدار من التعذيب بمجرد أن ابتعد الآخرون عن أملاكها.

تقول كلتوم إنها حاولت إبعاد المواشي التي بدأت تُدمر المحاصيل في مزرعتها في بلدة أم قعونجة، لكن هذا لم يَرُق للرعاة المسلحين الذين “ضربوني بالعصا كثيرًا حتى أصبحت غير قادرة على الحركة، لقد سبب لي الضرب أذى جسيمًا في الرأس واليد اليسرى التي حاولت بها تفادي العصا”.

واعتاد الرعاة، الذين يملكون تاريخًا طويلًا من الإفلات من العقاب، على إدخال المواشي في المزارع عند بداية الزراعة وفي موسم الحصاد، دون أن يملك المزارعون المسحوقون القدرة على الاعتراض، نظرًا إلى الحماية التي توفرها لهم قوات الدعم السريع والجماعات القبلية المسلحة، فيما يتعرض من يعترض على هذا التعدي للقتل والعنف الجنسي والضرب.

مخيم السريف بنيالا

 

اغتصاب تحت التعذيب  

في مايو السابق، دفع الجوع وانعدام المساعدات الإنسانية النازحة في مخيم السلام، أماني سليمان، إلى الذهاب للعمل في غسيل الملابس في مدينة نيالا، لكنها تعرضت لتعذيب قاسٍ أودى بحياتها لاحقًا.

وذكرت أم الحكيم سليمان، وهي شقيقة الضحية، إن أماني ذهبت لغسل الملابس في منزل يقع وسط نيالا يقطنه مجموعة من الشباب، لكن بعد انتهاء عملها المتمثل في غسل الملابس، أرادة احدهم اغتصابها ، لكنها بدأت تقاومه قبل أن يقوم بضربها عقابًا على رفضها.

وتقول إن شقيقتها حاولت الهرب أثناء تعرضها للضرب، قبل أن يتجمع حولها سكان المنزل ويقيدوا يديها بالأصفاد ثم ضربوها ضربًا مبرحًا.

وتضيف أم الحكيم: “عندما وصلت شقيقتي إلى المخيم كانت صحتها قد تدهورت، ليتم إسعافها إلى المركز الصحي في المخيم، وبعد 45 يومًا فارقت الحياة متأثرة بالإصابات الناجمة عن التعذيب الذي تعرضت له”.

ويوضح المتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين بدارفور، آدم رجال، أن استخدام القوة لاغتصاب الفتيات والنساء سلوك شائع في جنوب دارفور، وذلك ضمن أساليب أخرى يستخدمها الجناة للإيقاع بالنساء، تشمل استغلال فقر النازحات.

ويشير رجال إلى أن معظم الناجيات من العنف الجنسي لا يبلغن الجهات المعنية في المخيمات عن الاعتداءات التي ارتُكبت بحقهن خشية الوصمة الاجتماعية، مبينًا أن النساء والفتيات اللواتي يخرجن للعمل خارج المخيمات عُرضة للاغتصاب والعنف القائم على النوع الاجتماعي، خاصة اللواتي يذهبن إلى المزارع أو جمع الحطب والسعف.

وتؤكد العديد من تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية أن عدد حالات الاغتصاب أعلى بكثير من المُعلنة، نظرًا إلى عدم التبليغ عنها بسبب الوصمة الاجتماعية والخوف من الانتقام وانهيار النظم الطبية والقانونية.

واضطرت العديد من المرافق الصحية في دارفور إلى التوقف عن العمل أو تقليص أنشطتها، في ظل أزمة التمويل التي تُعاني منها خطة الاستجابة الإنسانية التي تُديرها الأمم المتحدة، مما أثر على ملايين النساء النازحات، خاصة في دارفور التي يحتاج 79% من سكانها إلى الحماية والمساعدات.

حملة ممنهجة 

وذكرت رئيسة اتحاد المرأة بمخيم كلمة، حنان حسن خاطر، أن هناك حملة ممنهجة ضد النازحات اللواتي ظللن يتعرضن للعنف الجسدي والجنسي والاقتصادي أثناء ذهابهن للعمل خارج المخيم من قبل مجموعة رعوية مسلحة.

وأفادت بأن الاتحاد وثق 10 حالات عنف جنسي تأكدت عبر الفحص الطبي، و23 حالة عنف جنسي للنازحات في قريتي أبو عضام وعشمة شرق مخيم كلمة خلال شهر يوليو السابق، وذلك عندما ذهبن إلى الزراعة.

نازحات يعملن في حقل زراعي بجنوب دارفور

وتحدثت عن تعمّد المجموعات الرعوية التي تتربص بالنازحات باعتبارهن أكثر فئات المجتمع ضعفًا، نهب موارد النساء والفتيات، بما في ذلك الحمير والكارو وتقاوي الزراعة.

وحذّرت حنان حسن خاطر من مخاطر إصابة العديد من النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب بالأمراض المنقولة جنسيًا مثل الإيدز والتهاب الكبد، في ظل شحّ الأدوية وارتفاع تكاليف العلاج، بعد التأكد عبر الكشف الطبي من إصابة ثلاث فتيات تعرضن للاغتصاب خلال أغسطس الحالي بمرض التهاب الكبد.

عنف متصاعد واستغلال واضح  

يقول عضو في شبكة الحماية بمخيم كلمة ــ فضّل أن يُذكر باسم شيخ الدين خشية تعرضه للانتقام ــ إن تردي الوضع المعيشي بسبب انقطاع الحصص الغذائي ، دفع بالنازحات إلى البحث عن العمل خارج المخيم ، رغم تعرضهن للعنف بكافة أشكاله في ظل انعدام الأمن .

ويشير الناشط إلى أن أصحاب العمل يستغلون ضعف النساء وحاجتهن إلى المال بمنحهن أجورًا زهيدة، خاصة في نظافة الملابس ونظافة المنازل وإزالة الحشائش في الجنائن، وهي أراضٍ عادة ما تُزرع بالفاكهة والخضروات طوال العام.

ويبيّن أن أصحاب الجنائن يجبرون النازحات على القيام بإزالة أكبر قدر من الحشائش في الأحواض، حيث تعمل النازحة من الصباح إلى غروب الشمس مقابل 2000 جنيه ــ نحو 0.57 دولار، كما يحاول آخرون مساومة النازحات لممارسة الجنس بمبالغ مالية زهيدة، وهؤلاء عادة لا يبلغن اللجان النسوية في المخيم عن هذا الاستغلال.

صورة بواسطة الذكاء الاصطناعي لنازحة تنظف الحشائش في الجنائن

ويذكر أن النساء النازحات أصبحن مسؤولات عن الأسر، نظرًا لعدم قدرة الرجال على الخروج من المخيمات للحيلولة دون اعتقالهم بذريعة التعاون مع الجيش السوداني.

ونشرت منظمة أطباء بلا حدود في 4 يونيو السابق، تقريرًا بعنوان “أصوات من جنوب دارفور”، يوضّح كيف أن تبعات العنف المتفشي وانهيار نظام الرعاية الصحية والنقص في الاستجابة الدولية، اجتمعت لتستنفد استراتيجيات التكيّف لدى الناس.

ويقول التقرير إن العنف وانعدام الأمن والجوع تتسبب بتدمير حياة الناس في جنوب دارفور، حيث يتعرض الناس لعنف مروّع على الطرقات وفي المزارع والأسواق وفي بيوتهم، كما تشيع تقارير حول وقوع اعتقالات تعسفية وسرقات ونهب.

وأفادت أطباء بلا حدود أنها قدّمت الرعاية لـ 659 ناجية وناجيًا في الفترة من يناير 2024 إلى مارس 2025، حيث أن 56% من الناجين تعرضوا للاعتداء على يد شخص غير مدني.

وتقول امرأة تعيش في مخيم للنازحين، لأطباء بلا حدود: “خلال محاولتنا، نحن النساء، الخروج من المخيم للعمل في الزراعة… أتعرض للضرب والتعذيب… لا توجد طريقة للخروج… تعرضت ابنة عمتي للاغتصاب على يد ستة رجال، قبل ستة أيام فقط… أشعر بعدم الأمان، لأنه إذا خرجت، سأتعرض للاغتصاب”.

هروب من المسؤولية  

أدى النزاع الحالي إلى جعل السودان مناطق متنازع عليها دون سلطة موحدة، بما في ذلك جنوب دارفور التي تُسيطر عليها قوات الدعم السريع منذ أكتوبر 2023، كما تُدار عن بُعد بلا سلطة فعلية من حكومة تخضع للجيش وتتخذ من مدينة بورتسودان شرقي البلاد مقرًا لها.

وشكلت الدعم السريع إدارة مدنية تقوم بمهام تنفيذية وتشريعية في جنوب دارفور، دون أن تولي هذه الإدارة اهتمامًا بمخيمات النزوح مثل عطاش والسلام والسريف والحصاحيصا، علاوة على مخيم كلمة الذي يأوي أكثر من 300 ألف نازح.

وفاقم عدم وجود سلطة مركزية وفشل الإدارة المدنية في توفير الأمن أوضاع النازحين، خاصة شريحة النساء والفتيات الأكثر تعرضًا لأعمال العنف.

ورفض مسؤولون في الإدارة المدنية بولاية جنوب دارفور والوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية التابعة لقوات الدعم السريع التعليق على انعدام الأمن وفشل حماية النساء وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى مخيمات النزوح.

وأقر مفوض العون الإنساني بولاية جنوب دارفور، الذي يدير أعماله من بورتسودان، صالح عبد الرحمن، بوقوع انتهاكات ضد النساء، مشيرًا إلى أن حكومة الولاية تبذل جهودًا مع المنظمات بوصفها جهات محايدة لتعمل على حماية النازحين وضحايا الانتهاكات.

وذكر عبد الرحمن أن قوافل الإغاثة والمساعدات الإنسانية تعرضت للنهب في الطرق قبل الوصول إلى وجهتها النهائية المتمثلة في مخيمات ولاية جنوب دارفور.

وبينما تعجز الحكومة في بورتسودان عن حماية مخيمات النزوح وتفشل الإدارة المدنية في توفير الأمن، يبقى مصير النازحات معلّقًا بين الخوف والجوع، لتتحول حياتهن إلى مطاردة يومية مع الخطر، ويصبحن فريسة سهلة لانتهاكات لا تجد من يردعها.

إحصاءات حديثة  

تُعد الانتهاكات التي تعرضت لها مريم هارون، وكلتوم أبو بكر، وأماني سليمان، قطرة في محيط الجرائم التي تُرتكب بحق النازحات في جنوب دارفور، التي تفرض فيها قوات الدعم السريع إجراءات أمنية مشددة، تتضمن ملاحقة الصحفيين الذين يضطرون إلى العمل في السر خشية تعرضهم للاعتقال المتطاول والإخفاء القسري.

هذا ما تؤكده مسؤولة المرأة في مخيم عطاش شمالي نيالا، أحلام أبوبكر ، تزايد حالات العنف الجنسي والجسدي ضد النساء والفتيات أثناء خروجهن للعمل في مدينة نيالا، أو أثناء ذهابهن لجمع الحطب والسعف، أو خلال قيامهن بالأنشطة الفلاحية في موسم الأمطار ــ فصل الخريف.

وكشفت أحلام عن توثيق 23 حالة عنف جنسي وجسدي خلال يونيو ويوليو وأغسطس 2025، من بينهن 10 حالات اغتصاب لسيدات وفتيات ذهبن للاحتطاب أو داخل منازل بنيالا، فيما الـ13 حالة المتبقية كانت اعتداءً بالضرب خارج المخيم في نفس مواقع العمل.

وتضيف: “جميع الحوادث التي وقعت خارج المخيم كان الجناة فيها رعاة أو مسلحين مجهولين” ، وهذا ماذهب عليه الناشط بشبكة الحماية بمخيم كلمة انهم يرصدون يوميًا تعرض 8 إلى 10 نازحات لانتهاكات العنف الجنسي والإيذاء الجسدي من قبل أشخاص يرتدون زي قوات الدعم السريع.

ويضيف: “لا نستطيع تحميل المسؤولية لأي طرف، لجهة أن المسيطرين على الأرض هم من ينتهكون حقوق الإنسان” ــ في إشارة إلى عناصر الدعم السريع.

 

يُنشر هذا التقرير ضمن مشروع “انترنيوز” الخاص بتغطية الوضع الإنساني والانتهاكات وتأثير النزاع في السودان على الاقتصاد والبنية التحتية وتدهور البيئة

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.