علاء خيراوي

في لحظةٍ فارقة من تاريخ السودان، ارتفعت الأيادي على المصاحف في نيالا لتُعلن ميلاد سلطة موازية لحكومة بورتسودان. حيث أدّى الفريق اول محمد حمدان دقلو (حمدتي) يوم السبت ٣٠ أغسطس ٢٠٢٥، بمدينة نيالا بإقليم دارفور اليمين الدستورية رئيسا للمجلس الرئاسي لحكومة تحالف السودان الجديد تأسيس، كما ادىّ السيد محمد حسن التعايشي القسم رئيساً للوزراء.

لم يكن ذلك قسمًا بروتوكوليًا عابرًا، بل كان رصاصةً سياسية جديدة في صدر دولةٍ تتنازعها حكومتان، وتنهشها الميليشيات، ويترصّدها الفقر والجوع والموت.

كانت لحظةٌ تُشبه شرارة البركان حين ينفجر، أو خيوط الليل حين تتمزّق فجأة بسوط البرق، لحظةٌ أعلنت أن السودان لم يعد في مرحلة الصراع على السلطة فحسب، بل دخل طور الانقسام المكشوف، حيث كل طرف يتدثّر بشرعيةٍ يراها دستوره، ويستقوي بجيشه، ويراهن على الخارج. ومن هنا يبدأ السؤال الأخطر؛ ماذا بعد هذا اليمين الذي قد يكون مقدمةً لتاريخ جديد، أو بوابةً لخراب أوسع؟

بعد أن أُديت الأيمان في نيالا وتوزّعت، الكراسي بين حميدتي والتعايشي، دخل السودان منعطفًا لا يشبه ما سبقه من مآزق، بل يكاد يكون أخطرها على الإطلاق. نحن لا نتحدث عن تناوب على السلطة أو خلاف سياسي يمكن احتواؤه، بل عن ازدواجٍ كامل في مراكز القرار، عن دولتين متناحرتين تحت سماءٍ واحدة، عن سيادتين متقابلتين في الجغرافيا السودانية، وعن خطابين متصادمين يزعم كلٌّ منهما أنه صاحب الشرعية والدستور.

هذا المشهد ليس سوى إعلان عن تآكل الفكرة الوطنية الجامعة، وإقرارٍ بأن الحرب لم تعد سلاحًا في الميدان فقط، بل تحوّلت إلى مؤسسة بلباس رسمي ويمين دستوري.

حتى اللحظة لم تنجح حكومة “تأسيس” التي أعلنها حميدتي والتعايشي في انتزاع اعتراف دولي واحد، بل على العكس جاءت المواقف الإقليمية والدولية متضافرة ضدها؛ الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية أصدرت بيانات واضحة ترفض أي محاولة لشرعنة حكومة موازية، وعدد من الدول المؤثرة مثل مصر والسعودية وقطر والكويت أعلنت أن الاعتراف الدولي يظل منحصرًا في الحكومة المدنية المعترف بها في الخرطوم.

تقارير رويترز ووكالات الأنباء الغربية وصفت خطوة نيالا بأنها محاولة لفرض “تقسيم أمر واقع” أكثر من كونها بداية لحكم مشروع، وأكدت أن المجتمع الدولي يرى في هذه التجربة تهديدًا لوحدة السودان لا فرصة للاستقرار.

ومن الزاوية القانونية، تواجه الحكومة الوليدة مأزقًا بالغ التعقيد، إذ أن القانون الدولي العام لا يمنح الشرعية لمجرد إعلان حكومة أو أداء يمين داخل نطاق جغرافي محدود، بل يربط الاعتراف بثلاثة شروط رئيسية؛ السيطرة الفعلية على الأرض، القدرة على الوفاء بالالتزامات الدولية، والحصول على قبول أو تعامل من المجتمع الدولي.

وفي حالة السودان، رغم سيطرة الدعم السريع على أجزاء من دارفور وكردفان، فإن غياب السيطرة الكاملة على العاصمة والمراكز الحيوية يجعل هذه الشروط منقوصة، كما أن الرفض الأممي والإقليمي العلني يزيد من عزلة هذه الحكومة ويجعلها أقرب إلى “سلطة أمر واقع” منها إلى كيان ذي شرعية دولية.

النماذج في التاريخ القريب تؤكد هذه المعضلة؛ ففي ليبيا منذ ٢٠١٤ وُجدت حكومتان متوازيتان (حكومة طرابلس المعترف بها دوليًا وحكومة طبرق المدعومة من حفتر) ولم يُمنح الاعتراف إلا لواحدة، فيما ظلت الأخرى “سلطة أمر واقع” رغم قوتها العسكرية. وفي اليمن، قسّم الصراع البلاد بين حكومة معترف بها دوليًا في عدن والرياض، وسلطة حوثية تسيطر على صنعاء ومناطق واسعة لكنها بلا اعتراف قانوني. وحتى في الصومال خلال سنوات الحرب الأهلية، لم يُعترف بالحكومات المتعددة التي نشأت في الأقاليم، بل ظل الاعتراف الدولي منحصرًا في كيان مركزي حتى لو كان ضعيفًا.

هذه النماذج تضع “يمين نيالا” في خانة واحدة، إعلان سياسي داخلي يفتقر إلى المقومات القانونية الدولية للاعتراف، ويظل رهين موازين القوة الميدانية وتوازنات الخارج، لا قوة نصوص الدستور الانتقالي الذي أعلن في دارفور.

ورغماً عن العزلة الدولية التي تواجهها حكومة تأسيس، فإن باب الاعتراف الإقليمي يظل احتمالًا قائمًا، إذ درجت بعض الدول في محيط الأزمات على التعامل ببراغماتية مع سلطات الأمر الواقع التي تفرض نفسها على الأرض.

فالدول المجاورة لدارفور وكردفان مثل تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا قد تجد نفسها مضطرة إلى فتح قنوات رسمية أو غير رسمية مع حكومة نيالا، لأسباب سياسية او دفعًا للفوضى على حدودها، وهو ما قد يتطور إلى اعتراف عملي محدود وإن لم يرقَ إلى الاعتراف السياسي الكامل.

وللتاريخ نماذج مشابهة؛ طالبان نالت اعترافًا من باكستان والسعودية والإمارات عام ١٩٩٦ رغم عزلة المجتمع الدولي، وسلطة حفتر في ليبيا وجدت دعمًا من مصر والإمارات وفرنسا مع أنها بلا شرعية أممية، وحركة حماس في غزة حظيت بتعامل رسمي من دول مثل قطر وتركيا رغم عدم قبولها كحكومة شرعية من أغلب دول العالم، وحتى أرض الصومال التي لم يعترف بها أحد دوليًا تعاملت معها إثيوبيا وبعض الدول الأفريقية باعتبارها شريكًا تجاريًا وأمنيًا.

هذه الأمثلة تؤكد أن “يمين نيالا” قد يفتح الباب أمام اعترافات إقليمية جزئية أو تفاهمات عملية تفرضها الحاجة والواقع، لكن دون أن يعني ذلك حصولها على الشرعية الكاملة التي يقرّها القانون الدولي، أو تخليصها من مأزق العزلة السياسية التي تواجهها.

إن أخطر ما في الأمر ليس أن يؤدي حميدتي والتعايشي اليمين، بل أن يُفتح الباب واسعًا أمام انقسامٍ دستوري وسياسي قد يُشرعن للحرب ويمنحها غطاءً قانونيًا وهميًا، في حين يظل الشعب هو الوقود المحترق. ففي الوقت الذي يُحاصر فيه الجوع ملايين الأفواه، وتكتظ المخيمات بالنازحين، ويهيم الأطفال بلا مدارس، يواصل قادة الميليشيات والحكومات المتنازعة سباق الأختام والطوابع وكأنهم يقيمون عرسًا سلطويًا على أنقاض الوطن. أي عبثٍ أعظم من أن تصبح الأيمان الدستورية وسيلةً لتكريس الانقسام بدل أن تكون عهدًا لوحدة البلاد وكرامة شعبها؟

إن المستقبل القريب لا يَعِدُ إلا بمزيدٍ من المواجهات إن استمر هذا الجنون؛ فكل يمين في نيالا يقابله اجتماع في بورتسودان، وكل دستور يُعلن هنا يُقابله دستور مضاد هناك، وفي الوسط تذوب الدولة السودانية كشمعةٍ في مهب الريح.

وما لم يتوقف هذا النزيف، فإن البلاد تسير بخطى متسارعة نحو مصيرٍ شبيه بما حدث في دول انهارت أمام أمراء الحرب والدويلات المتناحرة.

السودان اليوم يقف على حافة الهاوية، إما أن يجد أبناؤه صيغةً جامعة تُعيد الاعتبار للدولة الواحدة والسلطة المدنية الديمقراطية، وإما أن يتحوّل اليمين الذي عُقد في نيالا إلى لعنةٍ تاريخية تشرعن الانقسام وتؤبد الخراب.

وعلى القوى المدنية، بعد هذه الخطوة، أن تدرك أنّ المشهد لم يعد مجرد نزاع بين جنرالين يتنازعان على الحكم، بل صار معركة على معنى الدولة نفسها. إن بقاؤها في موقع المتفرّج أو الاكتفاء بخطابات الإدانة لن يغيّر شيئًا، بل يترك الساحة خالية أمام عسكرةٍ شاملة. المطلوب منها اليوم أن تتجاوز تشتتها وأن تبني جبهة عريضة موحّدة، لا لمجاراة أحد الطرفين، بل لطرح بديل وطني جامع يفضح عبثية حكومتي بورتسودان ونيالا معًا.

عليها أن تستثمر لحظة الانقسام العميق لتأكيد أن صوت المدنيين هو الضامن الوحيد لبقاء السودان دولةً واحدة، وأن تضع برنامجًا عمليًا للتحرك، إعادة تنظيم صفوفها، فتح قنوات مع الشارع والشتات، نسج تحالفات إقليمية ودولية ترفض شرعنة أي حكم بالقوة، وتقديم رؤية واضحة لانتقالٍ مدني ديمقراطي.

بهذا فقط تستطيع القوى المدنية أن تنتقل من خانة المراقب المهمّش إلى خانة الفاعل الذي يُحسب حسابه، وأن تُثبت أن السودان ليس أسيرًا ليمينٍ يُؤدّى هنا أو هناك، بل لشعبٍ قادر على انتزاع حقه في الدولة المدنية الواحدة.

إن يمين نيالا ليس مجرد إجراء سياسي أو تنازع على الشرعية، بل هو سؤال عن معنى الدولة ومعنى العقد الاجتماعي في السودان. فحين ينقسم الوطن إلى يمينين، وتتنازع الشرعية ساحتين، يصبح السؤال الأعمق، هل الدولة كيانٌ مادي تحرسه البنادق، أم فكرةٌ معنوية تتجسد في الضمير الجمعي.

فلقد رأى الفيلسوف الألماني هيغل ان الدولة روحًا أخلاقية عليا، بينما حوّلها نيتشه إلى إرادة قوة، لكن السودان اليوم يثبت أن الدولة حين تُفرغ من روحها الأخلاقية وتُختزل في إرادة السلاح، تتحول إلى قفص من حديد ينهش ساكنيه بدل أن يحميهم.

يمين نيالا، إذن، ليس مجرد قسم على المصحف، بل قسم على جسد الوطن نفسه؛ قسمٌ قد يكتب تاريخًا جديدًا أو يضيف طبقة أخرى من الرماد إلى تلال الخراب. اللحظة تكشف أن الدولة ليست دستورًا يكتب ولا يمينًا يُؤدى، بل هي وعيٌ جمعي بالانتماء، وإرادة مشتركة للعيش معًا. فإذا غابت هذه الإرادة، سقطت الدساتير وتحوّلت الأيمان إلى طقوس فارغة.

إن التاريخ لا يرحم من يكرر أخطاءه، وإن الأمم التي تفقد قدرتها على الاتفاق حول معنى العيش المشترك محكوم عليها بالزوال. لذلك فإن يمين نيالا ليس قدرًا محتومًا، بل مرآة قاسية تعكس انهيار العقد الاجتماعي في السودان. ولحظة الحقيقية تكمن في أن يدرك السودانيون أن الدولة لا تُبنى بالولاءات الضيقة ولا تُقام على أكتاف الجنرالات، وإنما تُستعاد حين يلتقي الوعي الشعبي بالإرادة الحرة ليصوغ عقدًا جديدًا للوجود المشترك. وإلا فسيظل السودان يدور في حلقة التاريخ المأساوي، حيث يتحول كل يمين إلى لعنة، وكل دستور إلى شاهد قبر، وكل سلطة إلى وهمٍ على جثة وطن يتشظى بلا نهاية.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.