أمد/ في قلب المشهد الفلسطيني الممزق بين ضفّتين، تتبدى مفارقة لا تقلّ فظاعة عن الاحتلال ذاته: سلطة تُخنق مالياً رغم اعترافها بإسرائيل، ومقاومة تُتهم بالإرهاب لكنها كانت — حتى وقت قريب — تتلقى حقائب المال تحت عيون أجهزة الأمن الإسرائيلية، بل وبترتيبات مباشرة منها.
فكيف نفهم هذا التناقض الصارخ؟ وكيف تُفسَّر هذه الازدواجية في المعايير بين سلطة تتعامل بشفافية مالية خانقة، وحركة تُحاصر براً وبحراً وجواً، لكنها كانت تتغذى شهرياً عبر معبر بيت حانون، تحت رعاية أمنية إسرائيلية؟
سلطة تحت الحصار المالي… و”مقاومة” تحت إدارة محسوبة
منذ توقيع اتفاق أوسلو، اعتمدت السلطة الفلسطينية على مسارات التمويل الدولي، سواء من خلال أموال المقاصة التي تجبيها إسرائيل نيابة عنها، أو عبر الدعم الأوروبي والأمريكي المشروط. لكن هذه البنية المالية أصبحت بمثابة طوق خانق؛ كلما خرجت السلطة عن الخط السياسي المرسوم لها، طُوّقت اقتصادياً، وجُمّدت حساباتها، وتعرّضت لعقوبات غير معلنة.
في المقابل، تُتهم حركة حماس بأنها تدير تمويلها عبر قنوات غير تقليدية، وتُصنف ضمن قوائم الإرهاب الغربية. لكن على الأرض، وقبل اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023، كان المشهد مختلفًا تمامًا: فقد كانت الأموال تُنقل بشكل شهري من الدوحة إلى قطاع غزة عبر تنسيق رسمي، وبعلم كامل من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
كانت حقائب المال النقدي تصل إلى غزة عبر معبر بيت حانون (إيرز)، وأحيانًا بإشراف مباشر من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بما في ذلك الموساد والشاباك، في مشهد لا يخلو من التناقض السياسي الفاضح. كان الهدف المُعلن هو “شراء الهدوء”، لكن الهدف غير المُعلن كان أوضح: إدارة الانقسام الفلسطيني، لا حله.
اليوم، بعد الحرب، اختلفت المعادلة، لكن ما يظل ثابتًا هو حجم التوظيف السياسي والأمني الذي كانت تمثله هذه الأموال، حين كانت تُستخدم كورقة ضغط وتحكُّم، أكثر مما كانت تمثّل استجابة حقيقية لحاجة إنسانية.
إسرائيل تُموّل خصمها… والسلطة تُعاقَب على اعتدالها!
من المثير للسخرية السياسية أن يُسمح بتمويل حماس — المصنّفة “تهديداً وجودياً” — عبر ترتيبات رسمية، بينما تُحتجز أموال السلطة الفلسطينية لأنّها تدفع لعائلات أسرى أو شهداء.
حين تدفع السلطة رواتب للأسرى، تُتهم بـ”التحريض” ويُجفف تمويلها. لكن حين تُسلَّم الحقائب لحماس، فإن الرواية تُقلب: “تهدئة”، “استقرار”، و”حفاظ على الهدوء الأمني”. أي أن إسرائيل لا تمانع تمويل من تعتبرهم “إرهابيين”، إذا كان ذلك يُبقي الوضع قابلاً للإدارة… طالما أن البندقية موجهة في الاتجاه الصحيح، وطالما أن الصراع لا يتجاوز حدود غزة المحاصرة.
واشنطن تُصنّف ولا تُنفّذ: ازدواجية القرار الأمريكي
رغم أن الولايات المتحدة تصنّف حركة حماس كـ”تنظيم إرهابي” منذ عام 1997، إلا أنّها لم تُفعّل حتى اليوم أدواتها القانونية الكاملة ضد الحركة وقياداتها ورجال الأعمال المرتبطين بها، كما تفعل مثلاً مع تنظيمات أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
لماذا لا تصدر واشنطن أوامر اعتقال بحق قادة حماس السياسيين المعروفين؟ لماذا لم تُطالب الإنتربول بملاحقتهم؟ لماذا لا تُصادر ممتلكاتهم، أو تُجمّد أصولهم البنكية في الخارج، أو تفرض عقوبات فعلية على شبكات داعميهم في القطاع الخاص العربي والدولي؟
هذه الأسئلة لا تجد إجابة واقعية، إلا في إطار الفهم السياسي الأعمق: واشنطن — مثل إسرائيل — لا تُريد تصفية حماس، بل تُريد “إدارتها”، كما تُدير بها معادلات الضغط والاحتواء، وحتى التفاوض غير المباشر. وجود حماس — ولو بحدود — يُقدّم ذريعة مستمرة لدعم “أمن إسرائيل”، وللضغط على السلطة، ولمنع أي مشروع وطني فلسطيني شامل.
بمعنى أدق: المشكلة ليست في قدرة أميركا على استهداف حماس ماليًا أو سياسيًا — بل في إرادتها لفعل ذلك.
ازدواجية مدروسة: سياسة التفكيك بدل الحل
المسألة إذن ليست في التناقض، بل في المنهج. إسرائيل لا تحارب حماس بجدّ، كما لا تدعم السلطة بصدق. هي تريد كياناً في غزة يُمسك بالشارع بقوة السلاح، دون طموح سياسي سيادي. وفي الضفة، كياناً ضعيفاً يُدير الناس ويُنسّق أمنياً، دون قدرة على فرض معادلة سياسية.
هذه الازدواجية ليست عرضية، بل جزء من استراتيجية إدارة الصراع لا حله. حين تُخنق السلطة اقتصادياً، وتُغذى حماس مالياً — ولو بحذر — فإنّ الهدف هو واحد: منع أي وحدة وطنية حقيقية تُعيد تعريف المشروع الفلسطيني ككل.
من يُراد خنقه فعلاً: المقاومة أم المشروع الوطني؟
الحقيقة التي تكشفها الحقائب المحمولة عبر بيت حانون، أن المستهدف ليس “سلاح حماس” بذاته، ولا “مواقف السلطة”، بل احتمال أن يتوحد الفلسطينيون ذات يوم في مشروع سياسي جامع — مقاوم كان أم تفاوضي — يتحدث بصوت واحد.
حينها فقط، ستُقطع الحقائب، وتُغلق الحسابات، وتُفتح ملفات “الإرهاب” و”التحريض” ضد الجميع. فالعدو الحقيقي — بالنسبة لإسرائيل وبعض دوائر الغرب — ليس الصاروخ، بل الإجماع الفلسطيني. ليس الانقسام، بل الوحدة.
في ختام سطور مقالي:
ما يحدث بين غزة ورام الله ليس مجرد خلاف سياسي داخلي، بل نتيجة مباشرة لهندسة خارجية دقيقة، تُستخدم فيها المعايير المزدوجة كسلاح لتفكيك ما تبقى من الحلم الفلسطيني. وما لم تُكسر هذه المعادلة الخبيثة، سيبقى الفلسطيني يدفع ثمن نضاله، سواء حمل بندقية أو جلس على طاولة المفاوضات.
وفي الوقت الذي تُدار فيه المعركة بالرصاص في الجنوب، وبالورقة المالية في الشمال، تبقى القضية الفلسطينية أسيرة مسرحية كبرى، أبطالها معروفون… والسيناريو يُكتب بيد الاحتلال، وتُنفذه أطراف داخلية بإرادة مشلولة، أو بعجز فرضته الوقائع.