مهدي رابح

ليس في عنوان هذه المقالة أي خطأ مطبعي، إنما قصد به عمداً أن يكون المقابل التام للعبارة الشه Pessimism of intellect optimism of will “تشاؤم العقل تفاؤل الإرادة”، التي أطلقها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 1937) لأول مرة في صحيفته L’Or dine Nova “النظام الجديد”.

وما رمى إليه، وهو محق، هو أن التفاؤل المبني على رؤية حقيقية للواقع المتأزم تؤدي إلى تشاؤم الفكر وشلّ قُدرة المجتمع على مجابهة العقبات التي تقف في طريق سلامِه وتقدمه ورفاهه، أي أن الواقِعّية المحضة دون تفاؤل تهزم المجتمع، وتسلبه إرادته للتغيير وتحقيق تطلعاته نحو الغد المنشود.

ونحن، وفي واقع هذه الحرب الخبيثة اليوم وبكل المقاييس مجتمعٌ مهزوم، مهزومٌ بفعل عقودٍ من تفاؤل العقل وتشاؤم الإرادة، أو لِنَقل من تجميل الواقع وتزيينه وتزييفه أحياناً بدلاً عن مواجهته بكل قُبحه، وبالتالي عدم القدرة علي تغيير مساره.

مجتمع مهزوم وممزّق، قضى منه خلال سلسلة الحروب الداخلية، والتي لم تتوقف منذ قبيل الاستقلال وحتى صبيحة الخامس عشر من أبريل 2023م المشؤوم ما يزيد عن المليونين من القتلى، مليوني جريمة لم يحاسب عليها أحد.

وقضى منه ومنذ اشتعال الحرب الحالية عشرات الآلاف جرّاء العنف المباشر والجوع والمرض، ونهبت ودمرت ممتلكاته العامة والخاصة، ويتعرض ما يزيد عن ثلثي أفراده لمخاطر الموت جوعا، ويهيم الملايين ما بين النزوح واللجوء.

بالرغم من تفاؤل البعض، خلال الأشهر الأولى للحرب، بإمكان إيقافها في وقت وجيز قد يجنب الانهيار التام، إلا أنها اليوم، وبديناميكيتها الداخلية الخاصة، من المرجّح تمضي في مسار قد يمتد سنوات أخرى طوال، ومن المؤكد أنها، ولو توقفت هذا المساء ستترك جراحا قد لا تندمل ودمارا قد لا يمحى أبدا.

وبينما تمضي الحرب اليوم في سبيلها لا تلوي على شيء، ترتفع أصوات التكبير والتصفيق، وتقام المهرجانات الجنائزية احتفاء بتكوين حكومات تفتقد لأدنى معايير الشرعية، وتمهّد لانقسام البلاد واستمرار انحدارها نحو المجهول. مسار تقوده كارتيلات عسكريتجارية علي رأسها أمراء الحرب في جانبي خط القتال، يتدثرون بواجهات مدنية مهترئة بالكاد تغطي عورة الدماء التي تلطخ أيديهم.

ثم تزداد الصورة قتامة بسقوط فصائل مقدرة من المعنيين بالتصدي للمحنة والمحسوبين على القوى الحية “المدنية الديموقراطية” في فخ الاستقطاب السهل الذي نصبته الأطراف المتقاتلة اليوم، وتظل شريحة واسعة منهم مشغولة بتمزيق بعضها البعض معنويا، تخوينا وشيطنة بدلا عن التوحّد وتركيز الجهود لمجابهة الانهيار ومخاطبة المأساة الإنسانية المروعة، ومواجهة مجرمي الحرب وتحميلهم المسؤولية ومحاسبتهم ولو معنويا.

تطمح سلسة المقالات هذي للمساهمة في الحوار الذي أتمناه بنّاءً بين الرفاق الديموقراطيين، بعيدا عن الهرج العاطفي والتضليل الإعلامي الممنهج والدعاية الحربية التي سمّمت الفضاء العام، وتمكّنت من جرّه إلى حضيض مستنقع آسن.

ذلك عبر محاولة تحليلها للواقع بصرامة ودون مواربة، والإجابة عن مسألة مسببات الانهيار، الذاتية، الموضوعية والتاريخية ومن ثم المثابرة في الإمساك بتلابيب ما يمكن أن يوصف بتفاؤل الإرادة، إرادة الفعل الممكن والساعي للوصول إلى مستقبل أفضل.

 من المسؤول عن الحرب وتبعاتها؟

لا شك في أن قيادات وعضوية حزب المؤتمر الوطني عملت على إشعال هذه الحرب واستمرارها عبر تهيئة أعضائها وعملائها الفاعلين والمتغلغلين في الجيش والأجهزة الأمنية الرسمية وغير الرسمية وغيرها، وأنه وضمن خطوات أخرى عديدة قد أطلقت الرصاصة الأولى صبيحة ال 15 من أبريل 2025م، إلا أن أسباب اندلاع هذه الحرب واستمرارها تكمن أيضا في واقع الفراغ الدستوري والمؤسسي الذي فرضه انقلاب أكتوبر 2021م الذي قاده الجيش وحليفه الدعم السريع، وفي التشوهات البنيوية المتأصلة للدولة السودانية منذ عام 1956م، والتي أنتجت ظاهرة الحركة الإسلامية السودانية والمليشيات المسلحة والكارتيلات التجارية الإجرامية.

وهو ما يعني أنه في معرض تحديد المسؤولية ومحاولة إيجاد مخرج ما يمكن اعتبار هذه المقالات دعوة إلى الخروج من الرؤية التبسيطية التي تتجاوز، سهوا كان أم عمدا، السياق التاريخي المعقّد، وتضع كل المسؤولية بصورة استثنائية على الحركة الإسلامية، وكنتيجة لذلك، مدفوعة بتفكير عاطفي وسحري أحيانا، تعقِد كل الآمال العراض في إيجاد حل للمشكل السوداني وبصورة استثنائية علي التخلص من هذه “المجموعة” التي سممت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان لعقود طوال، دون تحديد الوسيلة. وذلك أيضا دون الاكتراث الكافي بعناصر أساسية أخرى، من أهمها الاقتصاد السياسي من ناحية، ومن ناحية أخرى التأثير الكبير لقوى إقليمية ودولية على تشكيل الأحداث منذ سقوط رأس النظام السابق وما سبقه.

لإيجاد الإجابة الأكثر صواباً على السؤال المطروح أعلاه دعونا نبدأ وبصورة مجردة الإقرار بأن الحرب الحالية هي إعلان لفشل المشروع السياسي والتنموي للدولة التي رسم حدودها المستعمر، وأطلق عليها اسم السودان.

وإن تسلسل الأحداث والقرارات منذ عام 1956م، وتراكم نتائجها أفرز واقعا كانت الحرب فيه محتّمة؛ لأنه واقع توارت فيه المرجعيات الأخلاقية وسيادة حكم القانون، وفُرِضت فيه بدلا عنها أدوات العنف والقمع والفساد والمال السياسي لشراء الولاءات كعناصر أساسية في معادلة الصراع حول السلطة والثروة.

وهو ما يعني أن السؤال الذي نسعى للإجابة عنه عبر المقالات، ولو جزئيا، هو كيفية إيقاف الحرب بصورة مستدامة وإخراج السلاح والفساد كأدوات لحسم الصراع السياسي الاجتماعي والاقتصادي واستبدالها بأدوات سليمة تسمح للشعوب السودانية بالتعايش السلمي معا على هذه الرقعة الجغرافية المحددة. وتسمح لهم ببناء دولة ذات سيادة تعبر مؤسساتها عن جميع المواطنات والمواطنين، ويدين لها الأفراد والجماعات بالولاء كأولوية تسبق جميع أشكال الولاءات الدينية والقبلية والعرقية والطائفية أو غيرها، ويخضع لسلطتها طوعاً جميع الأفراد والجماعات خضوعا يجسده احتكارها للعنف القانوني ووجودها النافذ عبرهم في مستويات السلطة السيادية والتشريعية، التنفيذية والقضائية. دولة يمتلك جميع الأفراد والجماعات المنتمين إليها، دون تمييز، القدرة في الترقي والحراك الاجتماعي والسياسي الحر والمشاركة في إدارة أجهزة الدولة علي قدم المساواة… دولة تسع الجميع.

يتبع..

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.