عبدالله رزق أبو سيمازة


عبد الله رزق أبو سيمازة

لعله من جليل حظ محمود، نجل شيخ احمد سليمان، أحد أعيان الخرطوم، ألا يكتفي بلعب الدور الرئيس في عمل روائي مجيد، حسب، وإنما يثير حوله العديد من الأسئلة، ابتداء مما يهجس به العنوان: لماذا هو طليعي؟ ولماذا اسود؟
هو طليعي، ربما، لأنه أحد أوائل الشبان السودانيين، الذين اتيح لهم الذهاب لعاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، للتعرف على الحداثة في مظانها، ولتلقي أرقي تعليم في الغرب، ليتأهلوا للمشاركة في إدارة بلادهم، ولوراثة حكمها، من المستعمرين، لاحقا. لكن مصطفي سعيد، حسب محمد خلف، صاحب كتاب (المتن الروائي المفتوح: فن القص السردي عند الطيب صالح)، هو أول من وطأت قدماه المركز الإمبريالي، من الجيل السوداني الشاب، ما يؤهله لاقتسام لقب الطليعي، مع محمود. أما الوصمة، أو التأكيد على اللون، لونه، فلأنه يصنع الفرق، إذ يؤطر الأحداث، هنا وهناك، ويهندس الوجود السياسي والاجتماعي، في بلد مستعمر، والسودان، بالذات، ويقسم الناس إلى “إنجليز” و”أهالي”، ويوزعهم على فسطاطين متقابلين، وفق أغنية ذائعة، في ذلك الزمان:
“قوة هائلة، وسودان ضعيف، ”
“إنجليزي، ومخلوق رهيف”
(لا خلاف بين الطيب صالح، صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال”، وإدوارد عطية، مؤلف رواية “الطليعي الأسود”، حول المغزى الهام للون البشرة، ودوره الحاسم في التأثير على حياة الناس ومصائرهم، آنذاك، بجانب حضوره الملموس في صيرورة وحياة بطلي روايتيهما، بهذا الشكل أو ذاك)
تقدم رواية (الطليعي الأسود)، مثلما تفعل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، شهادة على فشل النخبة السودانية المستنيرة، ممثلة في محمود، نجل الشيخ احمد سليمان، أحد أعيان الخرطوم، في المواءمة بين ثقافتها التقليدية، من جهة، والحداثة، التي تعرضت تلك النخبة لعصف تياراتها العنيفة، عبر التعليم والاتصال بحياة الغرب، وتمزقها، من ثم، تحت وطأة الصراع الحضاري، من الجهة الأخرى.
لكن محمود، ابن جنوب العالم، وقد وفد إلى الشمال، لم يكن يتوفر على طموحات وتطلعات كبيرة، كتلك التي يحملها، الطليعي الأسود الآخر، مصطفى سعيد، الشخصية المحورية في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، الذي سيجيء بعد عقد من الزمان، قاطعا نفس الرحلة، إلى البندر الإمبريالي، للغرض نفسه، وهو يتوفر على وعي بحقائق الصراع الحضاري، بخلاف محمود، لكنه يستجيب له بطريقته الخاصة، والأكثر إيجابية من استجابة محمود. لذلك خلت حياة محمود، الذي لم يحلم بالغزو، في البندر الإمبريالي، من أي أرصدة من الفتوحات العاطفية، التي حاذها مصطفى سعيد، كغاز، واع بذاته. فالحياة القصيرة، التي عاشها في لندن، التي شهدت تحطم آماله، أجبرته على الاستسلام لأقداره الاجتماعية، والعودة للبلد، وان لم يكن متصالحا تماما مع ذاته، أو مع واقعه. ففيما يشبه الاحتجاج اليائس، يشهر بعد حين تمرده على ذلك الاستسلام للتقاليد والثقافة المحلية، ويعلن القطيعة مع مجتمعه، بالعودة، إلى لندن، ضائعا، على الأرجح، بعد أن فشل، هو وجيله الطليعي، في تمثل القيم الغربية، أو الانتصار عليها، وفي التحرر من الثقافة التقليدية، ورجعيتها، وتجاوز حاجز اللون، والتسامي عليه، بدلا من الارتهان للتنازع بين قطبي صراع الشمال والجنوب، أو الشرق والغرب، في رواية أخرى.
وفي سياق مواز، سيعود مصطفي سعيد، أيضا، للبلد، دون انتصارات تذكر، على حضارة الغرب، التي كان قد عقد العزم على منازلتها في ميدانها الرئيس. ليسلم نفسه، للنهر، في خاتمة تراجيدية مثيرة وغير متوقعة.
يذكر للدكتور حسن عابدين، سفير السودان، في لندن، سابقا، فضل اقتراح ترجمة رواية (الطليعي الأسود)، على بدرالدين حامد الهاشمي، الذي أنجز تلك الترجمة، لتصدر الرواية، لأول مرة بالعربية، من دار المصورات بالخرطوم، عام ٢٠٢٠.
وحسب السفير جمال محمد إبراهيم، الذي ربطته صلات وثيقة بالراحل الدكتور حسن عابدين، فإن عابدين، كانت له رؤية حول الجذور الفكرية لرواية موسم الهجرة الشمال، وقال، حسب مقال له في صحيفة التحرير، بتاريخ ٣ يناير ٢٠٢١، بعنوان: (حسن عابدين: رحيل طبيعي على طريقته)، أنه تداول مع د. عابدين حول شكوك طافت بذهنه، أن كان الطيب صالح قد نظر في رواية (الطليعي الأسود). وأضاف (لم نقطع لا أنا لا هو أن كان الأمر كذلك). وقد تفادى الأستاذ محمد خلف، في كتابه عن الطيب صالح، والذي صدر مؤخرا، تحت عنوان (النص الروائي المفتوح: فن القص السردي عند الطيب صالح)، من جهته، ترجيح أو نفي فرضية اطلاع الطيب صالح على رواية إدوارد عطية، التي صدرت لأول مرة عام ١٩٥٢، أي قبل صدور (موسم الهجرة إلى الشمال)، بما يزيد على عقد من الزمان، أو تأثره بها، بأي شكل. مع أنه أقر بما أسماه حوار “موسم الهجرة إلى الشمال” مع عديد من الروايات، من بينها “الطليعي الأسود”، انطلاقا من مبدأ أنه ( لا ينتج نص روائي إلا وهو في علاقة حوارية مع نصوص أدبية أخرى)، ومن ثم تأكيد أن رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال)، قد أقامت حواراتها، على حد تعبيره، مع عدة روايات، من بينها ( الطليعي الأسود)، إلا أنه لم يتوقف عند حيثيات حوار الروايتين، وإضاءة ما بينهما من تماثل أو تناص، والتقرير عما إذا كان الطيب صالح، قد اطلع على ( الطليعي الأسود)، وانتهى إلى معالجة موضوع النخبة السودانية، في ظل الصراع الحضاري، بطريقة مختلفة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.