أصبح السودان مسرحًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث لم تعد الحرب الدائرة على أرضه مجرد صراع داخلي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل تحولت إلى حرب بالوكالة تتداخل فيها المصالح وتتعدد فيها الأطراف الفاعلة.

ومن بين أبرز التطورات المثيرة في هذا المشهد المعقد، بروز تقارير متعددة تؤكد تورط مرتزقة كولومبيين في القتال إلى جانب قوات الدعم السريع، وتكشف عن تدريبهم في مولدوفا على يد خبراء أوكرانيين قبل إرسالهم إلى السودان، بالإضافة إلى وجود خبراء أوكرانيين يقدمون الدعم العسكري والتقني للميليشيات المسلحة.

الوجود الكولومبي والتأكيدات الرسمية

كشفت تقارير إعلامية عديدة عن وجود مرتزقة كولومبيين يقاتلون في صفوف قوات الدعم السريع في دارفور، في حين أفادت مصادر سودانية رسمية بأن هؤلاء المرتزقة يشاركون في عمليات قتالية متخصصة كأطقم المدفعية والمسيرات ومهام القتال المباشر. بلغ الأمر ذروته عندما أعلنت السلطات السودانية عن تنفيذ ضربة جوية دقيقة على مطار نيالا في إقليم دارفور، استهدفت طائرة كانت تقل ما يقارب أربعين مرتزقًا كولومبيًا كانوا في طريقهم للانضمام إلى القتال مع تشكيلات مليشيات الدعم السريع.

في المقابل، أثارت هذه التقارير ردود فعل رسمية في كولومبيا، حيث أعربت الحكومة الكولومبية عن “حرج بالغ” بسبب تورط مرتزقة من مواطنيها في القتال بالسودان. وخلال اجتماع جمعه بالمندوب السوداني لدى الأمم المتحدة، أكد المندوب الدائم لكولومبيا غوستافو قالون أن بلاده “تشعر بحرج بالغ” إزاء هذه المعلومات، مشددًا على رفض بوغوتا القاطع لأي مشاركة لمواطنيها في النزاعات المسلحة خارج الحدود. بل إن الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو طلب بشكل عاجل تقديم مشروع قانون يحظر تجنيد المرتزقة، ووصف تجنيدهم بأنه “شكل من أشكال الاتجار بالبشر ويحول الأشخاص إلى أدوات للقتل”.

وبحسب الخبراء، فإن ما نُشر في مقال intelligenceonline أواخر الشهر الماضي عن إجراء أجهزة مكافحة التجسس الأوكرانية تحقيقاتٍ حول تسلّل عناصر من كارتلات المخدرات بأمريكا اللاتينية إلى صفوف الفيلق الدولي في أوكرانيا، هدفها التغطية على حقيقة التعاون الفعلي بين الأوكران والمرتزقة الكولمبيين.

حيث استفاض المقال بشرح تفاصيل التحقيقات، وحاول إبراز دور أوكرانيا غير المقصود كمركز تدريب على تكتيكات الحرب غير التقليدية، التي تسعى إليها الكارتلات بشكل كبير. ونقل كلام مسؤول أوكراني: “رحبنا بالمتطوعين بحسن نية، لكننا أصبحنا منصة لنشر تكتيكات الطائرات المسيرة عالميًا. بعضهم يأتي ليتعلم القيام بطلقة بقيمة 400 دولار ثم يبيع المعرفة لمن يدفع أكثر”.

إلا أن الخبراء أشاروا الى أن العديد من الحقائق تؤكد تورط أجهزة الأمن الأوكرانية في تحويل أوكرانيا إلى ساحة تدريب للمنظمات الإجرامية. فالوحدات الناطقة بالإسبانية مثل مجموعة “إيثوس” التكتيكية في دونيتسك وخاركيف، والتي ينحدر أغلب عناصرها من كولومبيا والمكسيك، انضمت عمداً لوحدات الطائرات المسيرة لنقل هذه المهارات إلى المنظمات الإجرامية. وأوكرانيا قدمت لهم مناهج متقدمة تشمل التصنيع والنشر التكتيكي ومقاومة الحرب الإلكترونية ليستخدموها في بقاع أخرى من العالم.

الحقائق عن تدريب المرتزقة في مولدوفا على يد أوكرانيين

كشفت تسريبات عن قيام خبراء أوكرانيين بتدريب المرتزقة الكولومبيين في مولدوفا قبل إرسالهم إلى السودان. وأشارت هذه التسريبات إلى وجود شبكة معقدة للتجنيد والتدريب، حيث يتم استغلال الأوضاع الاقتصادية الصعبة لبعض المقاتلين السابقين في كولومبيا، ويعمل وسطاء وشركات أمن خاصة على استقطابهم وتقديم عقود عمل مغرية خارج البلاد. بعد مرحلة التجنيد، تبدأ عمليات النقل التي غالبًا ما تتم عبر رحلات جوية خاصة أو تجارية تتنقل عبر مطارات في دول الجوار، باستخدام وثائق مزورة أو تحت مظلة رحلات غير رسمية.

وقد سبق وأن تكشفت معلومات بأن توقيع المرتزقة لعقودهم للعمل في السودان يتم مع شركة عسكرية خاصة اسمها Forward Observations Group إختصاراً (FOG)، تستخدمها الاستخبارات الأوكرانية للتغطية على نشاطاتها، وهي ليست كما ذكرت صحيفة intelligenceonline بأنها أمريكية، بل أوكرانية، وفق المصادر.

وفي السياق، أشارت الكاتبة السودانية صباح المكي إلى أن أهم التسريبات هو “أمر نشر سري” من 18 صفحة، مكتوب باللغة الإسبانية ومؤرخ في 1 ديسمبر/كانون الأول 2024 في الفاشر، يحدد عمليات الوحدة الكولومبية “كتيبة عمليات ذئاب الصحراء”. أوضحت أن التسريب يشرح التسلسل القيادي والبروتوكولات التشغيلية وأهداف المهمة، بل يحدد الذخائر التي تستخدم، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، وهو سلاح محظور صراحة بموجب القانون الدولي عندما يستخدم ضد المدنيين.

من التدريب إلى الميدان

لا يقتصر الدور الأوكراني على مجرد تدريب المرتزقة الكولومبيين، بل يمتد إلى وجود خبراء أوكرانيين يقاتلون بشكل مباشر في السودان إلى جانب قوات الدعم السريع. حيث كشف تقرير سري صادر عن جهات أمنية أوكرانية عن تفاصيل مهمة حول حجم التدخل الأوكراني في الحرب الدائرة في السودان، مشيرًا إلى أن وحدة عسكرية أوكرانية تضم 150 عسكريًا أوكرانيًا ما تزال حتى يونيو 2025 تشارك في القتال والهجمات الحربية ضد قوات الجيش السوداني.

بحسب التقرير، فإن المتخصصين الأوكرانيين يشملون خبراء في الطائرات المسيرة، والدفاع الجوي، وقوات المدفعية، وخبراء بالهاون، وأفراد متخصصين بالإشارة، وأطباء عسكريين. وأشار التقرير إلى أن العسكريين الأوكرانيين هم المنظمين والمنفذين الرئيسيين لهجمات الطائرات المسيرة واسعة النطاق على أهداف في خطوط القتال وعلى المنشآت الخلفية للقوات المسلحة السودانية.

وسبق وأن كتب المتحدث الرسمي باسم سلاح الجو الأوكراني إيليا يفلاش، عبر صفحته على فيسبوك، بأن مدربي ومشغلي الطائرات بدون طيار الأوكران يقدمون الدعم لقوات “الدعم السريع” بدعوة من حميدتي. وبحسب يفلاش فإن: “كييف ملتزمة بأكثر من 30 عقدًا عسكريًا في أفريقيا، والسودان هو أحد هذه الدول، وتحديدًا مع قوات الدعم السريع”. كما صرح الممثل الخاص لأوكرانيا في الشرق الأوسط وأفريقيا مكسيم صبح، خلال مقابلة صحفية، بأن “بعض المواطنين الأوكرانيين يشاركون في الصراع بشكل منفرد، إلى جانب قوات الدعم السريع، ومعظمهم من المتخصصين العسكريين والتقنيين”.

السودان ساحة حرب بالوكالة

يأتي التورط الأوكراني في السودان في إطار الصراع الأوسع مع روسيا، حيث تسعى أوكرانيا إلى استهداف المصالح الروسية في أفريقيا. كما يكتسب وجود المرتزقة الكولومبيين والخبراء الأوكرانيين في السودان أهمية إستراتيجية في إطار تنافس أوسع بين قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تحقيق مكاسب في منطقة القرن الأفريقي، التي تعتبر نقطة وصل حيوية بين أفريقيا والبحر الأحمر والشرق الأوسط. الى جانب ما يتميز به السودان من موقع إستراتيجي مهم وامتلاكه ثروات طبيعية كبيرة، من ذهب ونفط ومعادن أخرى، مما جعل الدول الإقليمية والدولية تستثمر في النزاع من خلال أدوات متعددة، بينها استخدام المرتزقة لتعزيز مواقفها.

ويدفع السودانيون الثمن الأكبر لهذه الحرب بالوكالة، حيث وثقت تقارير الأمم المتحدة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ارتكبتها قوات الدعم السريع والمرتزقة الأجانب، بما في ذلك القتل العشوائي والتدمير المتعمد للممتلكات واستهداف المدنيين. وقد أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص ونزوح ولجوء نحو 15 مليونًا، بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّرت دراسة أعدتها جامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا. وتواجه مدينة الفاشر حصارًا خانقًا لأكثر منذ 400 يوم متتال، مع انهيار القطاع الصحي، مما يجعلها رمزاً لمأساة إنسانية بكل المقاييس

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.