في وطن ينزف على مدار الساعة، وتحت سماء أثقلها الدخان والدموع، تخرج أصوات في فضاء “الكلوب هاوس” لتزيد المشهد قتامة.
كان يفترض بهذه المنصات أن تكون ساحات للحوار الحر، للنقاش الرصين، ولتبادل الرؤى من أجل الوطن، لكنها تحولت إلى مسارح للثرثرة الفارغة، حيث يتبارى المتحدثون في “الاستاذية الكاذبة” وصوت الخطابة العالي، بينما تغيب الحقائق
وتُختطف المعاناة الإنسانية.
ما يجري في هذه الغرف ليس نقاشًا، بل عرض استعراضي للسطحية والاستعلاء. المتحدثون يتصرفون وكأنهم يملكون الحقيقة المطلقة، بينما لا يزيد ما يملكونه عن ترديد روايات مموّلة أو أجندات مفروضة.
يتقن بعضهم لعبة التضليل: يغلّفون خطابهم السياسي بطلاء من لغة مثقفة مصطنعة، لكن جوهره لا يعدو أن يكون تجارة بدماء الأبرياء.
لقد تحولت مأساة السودانيين إلى سلعة رخيصة في مزادات الكلام. كل طرف يريد أن يثبت أنه الأكثر وطنية، الأكثر معرفة، الأكثر التصاقًا بـ”الكرامة”، بينما الحقيقة على الأرض تقول شيئًا آخر: كلا الطرفين في الحرب يقتلان أبناء السودان
ولا أحد يملك شرعية المتاجرة بدمائهم.
الخطير أن هذه “البلبلة” المقصودة لا تكتفي بإغراق النقاش في الصفرية، بل تصنع ضجيجًا يحجب صوت الضحايا أنفسهم.
بدلاً من أن يُسمع أنين الأمهات وصراخ الأطفال الجوعى، يعلو ضجيج غرف الكلوب هاوس المليئة بالشتائم والاتهامات والادعاءات.
وبذلك يتحول التضليل الإعلامي إلى جريمة أخرى تُضاف إلى جرائم الحرب، لأن الكذب هنا يُستخدم لتبرير القتلة وتزييف الوعي العام.
إن أخطر ما يقدمه “بلابسة الكلوب هاوس” ليس فقط تضليلهم المتعمد، بل تجريدهم للحوار من أي قيمة أخلاقية.
يختفي التواضع الفكري ليحل محله الاستعلاء، تغيب الحقائق لصالح الانطباعات، وتُدفن المعاناة الإنسانية تحت ركام المناكفات.
إنهم يصنعون مسرحًا موازيًا للحرب، حرب بالكلمات تفتك بالوعي كما يفتك الرصاص بالأجساد.
لكن السودان، برغم نزيفه، ليس عاجزًا عن إنجاب رجال يعرفون الحق ويصطفون مع الحق. الوطن لا يحتاج إلى ضجيج الكلوب هاوس ولا إلى مزايداته، بل إلى خطاب صادق
إلى أصوات تضع المعاناة الإنسانية في قلب النقاش لا في هوامشه، إلى نقاش يعترف بتعقيدات الأزمة بدلاً من تبسيطها لخدمة أجندات رخيصة.
فلتصمت تلك الأبواق التي تزين القتل بشعارات زائفة. ولتسقط كل دعاية تغلف الدماء بلغة “الكرامة” أي كرامة هذه التي تُبنى على جثث الأبرياء؟ وأي وعي هذا الذي يُباع ويُشترى في غرف رقمية؟
*إن أخلاق الحرب، مهما انحدرت، تظل أهون على الوطن من أخلاق التضليل التي تمارسها هذه الغرف فالقاتل يُدان بالسلاح، أما أنتم فستُدانون بالكلمة، والكلمة حين تخون، أخطر من الرصاصة
لسودان لا يحتاج إلى مزيد من الضجيج، بل إلى أصوات صادقة وجريئة تعمل على كشف الحقائق لا إخفاءها، إلى خطاب يبني ولا يهدم، إلى كلمات تلملم الجراح ولا تزيدها اتساعاً.
ولستُ بخائنٍ لوطني إن اخترت أن أنأى بنفسي عن هذا الجمع الرذيل في الطبائع والمنهج والفكر؛ أولئك الذين يشاركون في تأجيج نار الحرب ليخدموا مصالح فئات بعينها.
إنما الخيانة الحقيقية هي أن أكون شريكًا في هذا العبث، أو شاهد زور على هذه التجارة الرخيصة بدماء الأبرياء.
المصدر: صحيفة الراكوبة