د. أماني الطويل
تطرح خطوة الفريق أول عبدالفتاح البرهان الأخيرة بإحالة نحو 150 ضابطاً في الجيش السوداني إلى التقاعد وإعادة تشكيل بعض مواقع القيادة تساؤلات جوهرية حول دلالات هذه الخطوة في سياق الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، وحول ارتباطها بالتحركات الدبلوماسية في أوروبا، بخاصة اللقاءات غير المعلنة في سويسرا، وما إذا كانت هذه القرارات جزءاً من عملية تفاوضية أم مجرد إعادة ترتيب لمسرح الحرب.
من منظورنا يمكن تحديد عدة نقاط أساسية تساعد في فهم أبعاد هذه الخطوة، إذ جاء قرار إحالة ضباط إلى التقاعد، وقرار توحيد سلسلة القيادة والسيطرة العسكرية لتشمل حلفاء الجيش، بعد أيام قليلة من لقاء البرهان مع المبعوث الأميركي الخاص لأفريقيا في سويسرا.
وهذا التزامن ليس صدفة، بل يعكس محاولة لعرض صورة الجيش السوداني بمظهر أكثر تماسكاً وقدرة على الالتزام بأي تفاهمات قد تنبثق من الحوار مع القوى الدولية، خصوصاً في مسألة وقف إطلاق النار.
وطبقاً لذلك يحقق الفريق عبدالفتاح البرهان الأهداف التالية:
أولاً الإعلان عن وجود قيادة قادرة على اتخاذ قرارات صعبة، مما يقلل من نقاط الاعتراض من جانب حلفاء الجيش، ويساعد البرهان على الإيحاء بأنه قادر على تنفيذ أي ترتيبات وقف إطلاق نار إن جرى التوافق في شأنها.
كذلك، تظهر هذه الترتيبات أيضاً أن هناك إرادة لاستمرار الحرب، وممارسة ضغط عسكري على قوات “الدعم السريع”، من دون إهدار فرص الانتظام في منصة تفاوض محتملة، خصوصاً أن طبيعة عملية الإحلال والتجديد التي جرت في الكوادر العسكرية السودانية قد ركزت على قطاع اللوجيستيات والاستخبارات.
ولعل النتيجة النهائية التي يمكن ملاحظتها هي تطوير الآلة العسكرية بالتوازي مع اختبار مسارات التسوية وملاءمتها لرؤية الجيش السوداني النهائية، وذلك تحت مظلة دعم تسليحي من الجيش الباكستاني طبقاً لمعلومات مسربة لم يتم التأكد من صحتها، وقد تكون مشروطة من جانب واشنطن بالانتظام في عملية تفاوضية.
وعلى رغم غياب دلائل معلنة على تنسيق مع قوى إقليمية أو دولية في شأن الإجراءات الأخيرة في الجيش السوداني، فإن مضمون القرارات فيما يتعلق بوضع الميليشيات والحركات المسلحة تحت القيادة العسكرية الرسمية، يتطابق مع أولويات يطرحها المجال العام الداخلي، فضلاً عن اتجاهات أميركية وإقليمية في تقليص التعددية المسلحة داخل السودان. فهذه الخطوة تبعث رسالة طمأنة للشركاء المحتملين بأن الدعم المطلوب من جانب الجيش السوداني لن يتسرب إلى قنوات غير منضبطة، تسهم في سيولة أمنية إضافية مهددة للمصالح الدولية والإقليمية، خصوصاً في البحر الأحمر.
وبطبيعة الحال، فإن استهداف مواقع العمليات واللوجيستيات والاستخبارات في التغييرات التي أقدم عليها الفريق البرهان يشير إلى سعي الجيش إلى تعزيز كفاءته القتالية، بخاصة في وسط وشرق السودان، حيث يحقق السيطرة.
إلا أن الوضع في دارفور يظل بعيداً من الحسم بفعل قوة شبكات “الدعم السريع” هناك، أي إن القرار قد يرفع الكفاءة العملياتية تدريجاً، لكنه لا يغير ميزان الحرب جذرياً.
أما فيما يتعلق بتأثيرات القرارات العسكرية في الأوضاع الداخلية فيمكن قراءتها في اتجاه أنها تعزز سلطة القيادة على حساب أجنحة بعينها من أعمدة النظام السابق، لكنه في المقابل قد يثير رد فعل معاكساً من الضباط المبعدين أو الأجنحة الإسلامية التي قد ترى نفسها مستهدفة، لكن يبدو لي أن قرارات البرهان قد عملت على تحييد الاتجاهات الأكثر عنفاً من بين هؤلاء، وهي المنسوبة إلى وزير الخارجية السابق علي كرتي.
على مستوى القوى السياسية المنسوبة إلى ثورة ديسمبر (كانون الثاني) فإن تماسك الجيش وتخلصه النسبي من العسكريين المحسوبين على الجبهة القومية الإسلامية أياً ما كان الجناح المستهدف فيها يعني فرصة للتقارب بين الجيش والمكون المدني أياً ما كان هذا المكون، إذ يمكن التعامل هنا مع طرف واحد عسكري واحد بقرار واحد لا يجري التأثير فيه، وذلك في مسائل وقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية، خصوصاً مع وجود خريطة طريق لصمود، لوقف الحرب سبق وأن جرى طرحها متضمنة طرح فترة انتقالية طويلة شاملة إجرائياً العملية الانتخابية، والعدالة الانتقالية، وكذلك استعداد للتعامل مع كل الأطراف السياسية السودانية.
في المقابل، فإن هناك فرصاً لا يستهان لممارسة سيطرة عسكرية مطلقة على السلطة بذريعة الأوضاع في دافور، وهنا يجري اختبار إرادة واشنطن، ومدى قدرتها على إقناع المكون العسكري بتحول للحكم المدني، لكن بشروط امتلاك الصدقية، إذ إنه من الممكن قبول واشنطن خصوصاً تحت إدارة ترمب بتحول مدني شكلي، كما أن هذا التحول لا بد أن يتضمن في تقديرنا طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في السودان وأوزان كل طرف وحدود صلاحياته في المرحلة المستقبلية.
أما المسؤوليات الإقليمية فهي تنصرف إلى ضرورة ترتيب حزمة المصالح، بحيث يجري توفير بيئة مناسبة لأي خطوة إجرائية مقبلة في شأن وقف إطلاق النار، وهي الخطوة التي ستسبق بالضرورة في حال التوافق العربي الضغط على مسارات الإمداد العسكري أياً ما كانت مصادرها.
وبالتأكيد خطوة الجيش بإعادة الهيكلة سيكون لها انعكاسات على كيان “تأسيس” التابع لـ”الدعم السريع”، إذ إن “تأسيس” بنى زخمه على فكرة شراكة قوى مسلحة ومدنية متحالفة مع “الدعم السريع”، وعلى إعلان تشكيل حكومة في الغرب (نيالا) كأمر واقع، لكن إذا أنجز الجيش فعلياً حال مركزية القيادة وقلص التشكيلات المتحالفة معه، فإن ذلك سيخفض من قدرة “تأسيس” على تفكيك حال القيادة المركزية للجيش، وسيكون الرهان على حكم في مناطق من إقليم دارفور ضعيفاً، وفي الغالب سيواجه “حميدتي” وقوات “الدعم السريع” رفضاً دولياً مؤسساً على موقف مجلس الأمن الأخير ضد قوات “الدعم السريع”، وإدانتها بممارسة انتهاكات واسعة وتوجيه دعوة دولية لها بفك حصار مدينة الفاشر في شمال دارفور.
التساؤل هنا هو عن طبيعة موقف كل مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم باعتبارهما زعيمين لفصائل مسلحة متحالفة مع الجيش، إذ يبدو لنا أنه في الغالب إذا وجد الفريق عبدالفتاح البرهان دعماً خارجياً كبيراً في خطوته الأخيرة بإعادة ترتيب الجيش السوداني، فإن الرجلين لن يفكا تحالفهما مع البرهان، وإن كانا سيمارسان ضغوطاً عليه فيما يتعلق بشروطهما للدمج الكامل في القوات المسلحة، وذلك بافتراض أن هذه هي الخطوة القادمة للجيش لتكوين جيش قومي مهني بعيداً من تمثيل قوى سياسية بعينها.
وبصورة عامة نستطيع القول إن خطوة الجيش الأخيرة وجدت ارتياحاً عاماً في الأوساط السياسية السودانية عبر عنه خالد عمر القيادي في تحالف صمود، كما وجد ارتياحاً شعبياً، إذ إن احتكار ممارسة القوة في السودان مطلب متفق عليه، بعدما عانى المدنيون، خصوصاً في الخرطوم قبل الحرب من تغول الفصائل المسلحة على حياة الناس، وممارستهم أعمالاً إجرامية أحياناً.
إجمالاً، لا يمكن النظر إلى إحالة 150 ضابطاً للتقاعد بوصفها مجرد تغيير إداري، فهي خطوة ذات دلالات سياسية وعسكرية ودبلوماسية، تعكس مسعى البرهان لإظهار الجيش فاعلاً منضبطاً قادراً على القتال والتفاوض في آنٍ واحد، لكن نجاح هذه الاستراتيجية لن يقاس بعدد الضباط المبعدين، بل بمدى قدرتها على تراجع العنف ضد المدنيين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وإمكان تنفيذ أي هدن مستقبلية، لكن كل هذا الأداء للأسف لا يعد بعد نقطة تحول في حرب السودان.
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة