بإيقاع يمزج الموسيقى السودانية بالأنغام العالمية، اصطحب العرض المسرحي «مشتاقين كتير» جمهوره في رحلة عبر الحرب والمنفى وما يخلّفه الفقد من ندوب. على خشبة المسرح في العاصمة الأوغندية كمبالا تعاقبت لوحات رمزية: أصوات تستحضر البارود والدخان، فتيات يروين الحرائق والخوف، ورقصات لعريس وعروس على أنغام مصرية وغربية وسودانية. ثم تتسع الحكاية لتضم تجارب من السعودية وأوغندا، حيث تصاعد الغناء والإنشاد حتى اتخذت المشاهد طابعاً صوفياً يفيض بالتنوع..

التغيير: كمبالا : فتح الرحمن حمودة

في إحدى ليالي كمبالا، انفتح المسرح على صوت “نشيد العلم السوداني” وسط حضور غفير من السودانيين والسودانيات الذين ملأهم الشوق لبلادهم.

تعالت أصوات أغنية “أنا مشتاق” تلتها “العديل والزين” فيما دوت الزغاريد في القاعة، وتزينت الخشبة بمشاهد “شنطة الشيلة” والزي السوداني التقليدي كأنها صورة تختصر تنوع البلاد هكذا كانت افتتاحية العرض.

وفي زوايا خشبة المسرح رصدت «التغيير» الرغبة الصادقة لـ”عقدة الجبنة”، بينما تسللت ألحان تراثية مثل “جيد لي يا يمة” وسط مشاهد سطول الماء صور مشهد، وكان السودان في لوحة مصغرة في تلك الخشبة.

وتتابع «التغيير» عندما جلست الفتيات على الأرض وسطول الماء أمامهن و”شنط الشيلة” إلى جوارهن لتتعالى أصوات السيرة في مشهد استحضر طقوس الأعراس السودانية.بعدها دخل العريس والعروس على إيقاع مصري، فرقصا بخفة قبل أن تتحول الموسيقى إلى لحن غربي ثم إلى أغنية عثمان حسين «عشرة الأيام». ومع تصاعد الزغاريد وانضمام الفتيات إلى الرقص، اكتمل المشهد لينتهي الفصل الأول من العرض كلوحة متكاملة.

وحول هذه التجربة يقول المخرج، وليد الألفي، خلال الحفل أن تجربة مسرح البنات بدأت عام 2004 بجامعة الأحفاد، وكانت فكرتها الأساسية أن تمتلك النساء أداة للتعبير؛ لأن المرأة كانت دوماً حاضرة في مسيرة المسرح السوداني.

ويضيف في حديثه “نحن نؤمن أن البنات قادرات على قيادة خشبة المسرح. ما شاهدتموه الليلة كان نتاج شراكة حقيقية بيني وبين الشباب تبادلنا فيها الخبرات وما قُدم هنا أقرب إلى بروفة نهائية وليس عرضاً مكتمل”.

وعاد الضوء ليكشف عن أغنيات تراثية أخرى مثل “الله من عينيك” قبل أن تنطفئ الأنوار مجدداً لتفتح على حوار بين عروسين يناقشان أحلام المستقبل. هذه الحوارات كانت تحاكي تفاصيل الحياة الزوجية السودانية قبل أن يُختم المشهد بوداعٍ صامتٍ على إيقاع أغنية “من قلب المحنة.. من قلب الجزيرة”.

مشاهد تجسد الحرب

وتابعت «التغيير» مجريات العرض الذي ظل متواصلاً حتى ارتفع صوت شاب يتحدث عن البارود والدخان، ليجسد صورة الحرب في السودان وما خلفته من تهجير. ثم تقدمت فتاة ترتدي السواد لتروي مشاهد الحرائق والخوف من المجهول، وتتمسك بأمل العودة إلى الديار. بعدها عاد الشاب ليصدح بنص شعري مؤثر عن النزوح الداخلي، بينما غرق المسرح في عتمة كاملة.

وتواصلت مشاهد حوار “المريود والمريودة” على وقع أصوات “البهائم” ثم ظهور مشهد ريفي يجسد علاقة الأب بابنه وهو يوصيه قبل السفر «امشي الله يسترك». تدخل الأم باكية تحكي عن صعوبة الأيام وعن قلقها من الغربة، وتطلب منه ألا يرحل. كلماتها الموجعة عكست ألم آلاف الأمهات السودانيات، حتى دخلت الجدة بدورها. تحدثت عن مطر “الرواكيب” ومفارقة الأبناء قبل أن يعود الظلام معلنا نهاية المشهد.

العرض كشف أيضاً عن تنوع أشكال الفقد والحروب، واعتبر التجربة بالنسبة له مثيرة ومميزة

محمد الطاهر مامدو _مسرحي

 

وعلّق المسرحي السوداني محمد الطاهر مامدو لـ «التغيير» قائلاً إن العرض تناول واقع السودان في فترة الحرب الراهنة، مسلطاً الضوء على معاناة النساء وما يواجهنه من فقد وانتهاكات، مضيفاً أنه رغم قسوته أظهر التنوع السوداني في اللغة والموسيقى والتراث.

وأشار في حديثه إلى أن العرض كشف أيضاً عن تنوع أشكال الفقد والحروب، واعتبر التجربة بالنسبة له مثيرة ومميزة، خاصة من خلال إشراك المجتمع الأوغندي عبر ممثلة أوغندية روت معاناتها كامرأة.

وتواصل العرض بانتقال الشاب إلى مشهد من السعودية، حيث دخل في حوار مع فتاة سعودية وتبادلا الغناء باللهجتين. أبدى فيه عن إحساسه بالموت في الصحراء وحنينه إلى الوطن، فيما ارتفعت الأصوات بأغنية «عيالك هجروك يا سالم»، ليأخذ المشهد طابعاً صوفياً على إيقاع نوبي، شاركه فيه صوت أوغندي يردد معهم «يا سالم».

المسرح لم يتوقف عند هذا الحد، فقد انطلقت رقصات من جبال النوبة، الكرنك، التراث الإثيوبي لتجسد التعدد الثقافي السوداني، ثم دخلت فتاة لتحكي قصة فتاة من ذو الهمم. قاومت الحياة، رغم قسوتها لتختم بالقول «أنا الحياة التي لا تهزم» وارتفعت أصوات نعناع الجنينة على إيقاع مصري، ثم تلتها مشاهد تناول الطعام السوداني، حين قالت إحدى الفتيات: «أكلت أمباز» في إشارة إلى المجاعة التي ضربت مدينة الفاشر المحاصرة لأكثر من عام بواسطة قوات الدعم السريع.

ومع تصاعد الإيقاع النوبي الصوفي رددت المجموعة “الحب كنزاً والصفاء..” قبل أن يختتم العرض بدعوة صادقة لوقف الحرب: “جيت يا ربي كل همي إنك تشيل الهم، وتدي سلامة لبلدي يقيف الدم..”

حمل العرض عنوان “مشتاقين كتير”، وكان بمثابة مساحة للحنين والبوح بالنسبة للحضور كان أكثر من مجرد مسرح كان لمة صغيرة استعادوا فيها الوطن المفقود بسبب حرب الجنرالات المستمرة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.