رويدا مطر
الكيزان في السودان ليسوا تاريخًا يمكن تجاوزه تحت أي ظرف، كما أن التذكير بفظائعهم ليس تكرارًا أجوفا، ولا هروبًا من الحاضر ولا هو بـ “مسمار جحا” كما يدّعي بعضهم، بل هو واجب وطني، وقبله ذلك أخلاقي.
في كل مرة نقول فيها “الكيزان”، لا نتحدث عن خلاف سياسي بسيط أو تجربة حزبية فاشلة يمكن تجاوزها، بل عن منظومة حكم كانت في وحشيتها أشبه بـقنبلة هيروشيما! الفرق الوحيد أنها لم تفكر في لحظة، بل تفجّرت ببطء في السودان، فأهلكته اقتصادًيا، وأمنيا، واجتماعًيا، وإنسانيًا.
في اليابان، لم يرَ الناس في التخليد السنوي لذكرى القنبلة النووية (مراسم السلام) تكراراً مملاً أو شكوى لا طائل منها، بل وسيلة بليغة لحماية الذاكرة الوطنية من النسيان، ولزرع الحكمة من الألم: لا للحرب، لا للدمار، لا لإعادة إنتاج المأساة، ونعم للسلام. هذا ما نحتاجه نحن اليوم، فكل من يروّج لـ”نسيان الماضي”، أو يسخر من الحديث عن الكيزان بوصفه “حديثاً مكررا”، إنما يدعو عن قصد أو جهل إلى إعادة نفس الكارثة، تحت لافتة جديدة. هؤلاء لا يحملون مشروعًا سوى إعادة الماضي، وتوظيف الحاضر، واحتقار ذاكرة الناس، والعبث بها. عودتهم ليست توبة، بل خدعة. واستمالتهم للعاطفة ليست رحمة، بل ابتزاز. إن الذاكرة التي نحملها هي الحصن الوحيد في وجه خداعهم، وكلما وُجد من يذكّر، بقي الأمل في ألا يُلدغ السودان من ذات الجحر مرة أخرى. وهم حفرة عميقة… ليسوا مجرد حجر.
معركة الكيزان الاجتماعية غزو ناعم للذاكرة
ففي خضم ما تخلفه الحرب في السودان كل يوم من دمار وتشريد وموت، يبدو أن الإسلاميين يرون في هذه اللحظة المأساوية أنسب توقيت للعودة إلى قلوب وبيوت السودانيين، لا عبر الاعتراف بالجرائم أو الاعتذار، بل عبر خطة ممنهجة لتزييف الوعي والحقائق، واستغلال العاطفة الوطنية، وإعادة سرد التاريخ بمنطق أنهم هم الضحية لا الجلاد.
هذه العودة ليست مجرد طموح سياسي عشوائي، بل مشروع شامل يمتد من أرض المعركة إلى الشارع العام، ومن منصات الإعلام إلى البيوت، ومن الخطاب الواضح إلى الحيلة. لا يتحدثون اليوم بلسان “التمكين” أو “الشريعة”، بل بلسان الوطنية، الإنقاذ، وإنهاء التهديد “الجنجويدي”، كأنهم لم يكونوا هم من أسسوا هذا الوحش، وربّوه، وأطلقوه على الشعب. لكن، الأخطر من خطابهم السياسي الآن، هو خطابهم الاجتماعي، الذي ينساب بهدوء في تفاصيل الحياة اليومية. يطلّون بوجوه مختلفة، أحيانًا مستحدثة، وأحيانًا معروفة ومجروحة بفساد معلن. يخرجون من بوابات الإعلام، المنظمات، الفن، الإغاثة، التجميل، والأعمال. يسوّقون وجوهاً جديدة” مدنية الشكل، كيزانية العمق، ويُدخلونها المجتمع من أبواب المصلحة المتبادلة، لا السياسة.
لذلك، حين يرفع البعض دون وعي لكارثة استمرار الحرب في السودان شعار “بل بس”، فإن ذلك يُترجم على أنه تبرئة ضمنية للكيزان، وفتح بوابة العودة لمن مزّقوا السودان باسم الدين والقوة. لذا، وإن كنا محرومين من أخذ حقوقنا منهم بالقانون، فأضعف الإيمان هو مقاومتهم اجتماعياً. الكيزان يستخدمون اليوم تكتيك “النسيان والغفران الاستراتيجي”، يستغلون ذاكرة السودانيين المنهكة، وجراحهم التي لم تبرأ، ليقولوا: “دعونا نبدأ من جديد وعفا الله عما سلف” وكأن شيئًا لم يكن. يبعثون رسائل منمقة عبر المنصات بجيوشهم الإلكترونية، وعبر سماسرتهم. يراهنون على توق الناس للخلاص، ولو عن طريق الجلد نفسه.
عسكرياً، يتبنى الإسلاميون اليوم رواية جديدة باطنها تمرير مشروع عودتهم بالقوة: نعم، هم يعترفون بأنهم من أسسوا مليشيا الدعم السريع، وسلّحوها، ومكّنوها، وشرعنو وجودها، ولكنهم يضيفون بكل بساطة: “ونحن فقط من يستطيع التخلص منها”. بهذا المنطق المقلوب، يحاولون تحويل مسؤوليتهم التاريخية عن صناعة ميليشيا موازية للدولة إلى مبرر للعودة إلى حكمها… لا اعتذار، لا محاسبة، بل مطالبة بالثقة، مجددًا. لكن الأخطر هو التغلغل في الوجدان الشعبي عبر أدوات الحياة اليومية. نراهم يعيدون تقديم الواجهات الإسلامية المسلحة كـ”رموز أمن”، وأبطال فداء. يبدأ الخطاب بتأليه الجنود، وتصوير من مارسوا القتل والاغتصاب كأمناء على الوطن. إن من بقر البطون، لا يمكنه اليوم الحديث عن “السند والظهر”، ومن ملأ البلاد بالسلاح والفتنة، لا يمكنه التظاهر بالحكمة والسلام.
لكن، في رحلة “الخلاص” التي يتشدقون بها هذه، يواصل الكيزان ارتكاب ذات الأخطاء التي صنعت الكارثة: عشرات المليشيات المستحدثة، أطفال يُجندون بلا رادع، شوارع تحكمها السيولة الأمنية، وسلاح في يد كل طامع. يرهبون السكان تحت ذريعة الأمن، ويمارسون الفوضى باسم الحسم. لقد نجحوا في كل شيء التفتيت، التخويف، التجييش إلا في الشيء الوحيد الذي يدّعون: إنهاء الحرب وهنا، يظهر زيف دعايتهم… فمن فشل في نزع فتيل الأزمة التي أشعلها، لا يمكن الوثوق به ليطفئ نارها. فهي أزمة خلاصها عندهم يتمثل في العودة… عودتهم إلى حكم السودان ولو بحكم “الثلثين”.
هذه العودة الكيزانية لا تجري فقط في الفضاء السياسي، وفي أرض المعركة، بل على أرض الواقع الاجتماعي داخل الأحياء، في علاقات السوق، عبر العلاقات الشخصية، ومن خلال شبكات “علاقات عامة” مدروسة ومنظمة، تمتد من الإعلام والفن والرياضة، ومن الناشطين السابقين الحانقين على عدم قدرتهم على أخذ نصيبهم من “كيكة السلطة”، إلى بائعي الحياد وسماسرة الفساد والانتفاع. كل هؤلاء يُعاد تدويرهم اليوم كحاملي خطاب جديد، يُمهّد لجيل مستحدث من الكيزان، أو لذات الوجوه بملامح مغسولة… تائبون في العلن، ومخادعون في الدواخل.
هؤلاء لا يستخدمون القوة أو الترهيب، بل يستغلون هشاشة الناس وتعبهم، ورغبتهم في الخلاص، والنجاة من هذه الحرب اللعينة، فيحولون علاقتهم بهم إلى علاقات مصلحة اقتصادية واجتماعية، ويراهنون على طموح الناس، وخوفهم من العوز، ورغبتهم في الاستقرار، لتبييض تاريخهم الأسود، مقابل وعود بالخدمة، أو النفوذ، أو الأمان. هنا تكمن خطتهم الحقيقية، تحويل العلاقات الاجتماعية والإنسانية إلى أدوات نفوذ. عبر وعود بفرص الدخول والاستفادة من شبكات اجتماعية ضخمة، تسهيلات مالية، دعم مشاريع وخدمات والترويج لها، أو حتى مجرد القرب من “المراكز” أو “شبكات العلاقات الاجتماعية النافذة”، يُغوون أصحاب الحاجات، ويحوّلون الطموح الشخصي إلى غطاء لغسل فسادهم. يراهنون على من ضاق به الحال لبعض البصر عن حقيقة من يدعمه. يسوّقون أنفسهم داخل الأسر، المجتمعات، الأسواق، والصالونات. يُعيدون بناء شبكاتهم الاقتصادية والاجتماعية في قلب النزوح، والشتات، والخراب، معتمدين على ضعف الذاكرة الجمعية، وغلبة الحياد أو الاستسلام على بعض النفوس. هؤلاء هم الفاعلون الجدد داخل شبكاتهم القديمة من صحفيين/أو، فنانين/أت، قوات، سيدات الأعمال، التجار/ات، خبيرات التجميل، الرياضيون، وغيرهم… كلهم ضحايا وخيوط في شبكة واحدة هدفها الأوحد تلميع واجهات النظام البائد بوعي، أو من دون وعي وفرضه كخيار “واقعي” للسودان المُنهك.
“الكيزان” اليوم لا يطالبون بفرص جديدة، بل يفرضون نفسهم كواقع محتم. لكن، هل يمكن أن يمنح المغدور الغادر فرصة ثانية؟ من خان الثورة، وسحق المعتصمين، وبارك الحروب، وساهم في تقسيم الوطن، لا مكان له في السودان. نحن بنات وأبناء الحرب والشتات ودور الإيواء والمخيمات، من نحمل ذنب الجوع والرعب والموت؟ نقولها بوضوح: لا عودة لمن باع السودان وحزبه. لا مصالح تغسل فسادكم، ولا علاقات تعيدكم. صوتنا سيظل يقظًا. لا تصالح. لا نسيان. لا غفران.
التغيير
المصدر: صحيفة الراكوبة