إبراهيم عمر
ان حالة الفشل المتراكمة والمتعاقبة من قبل النخبة السودانية منذ ميلاد الدولة الحديثة اقعدت البلاد عن ركب التنمية وتحقيق الاستقرار وعمقت من ازمة واقع التباين الواضح في المناخات الاجتماعية والثقافية بين شعوب الدولة ، والتى من المفترض ان تكون مدخل صحيح لبناء دولة المواطنة والمؤسسات وسيادة حكم القانون في ظل نظام سياسي فيدرالي يتيح الفرصة لهذه المناخات ان تتلاقح مع بعضها البعض وتنصهر بشكل حقيقي لتمنحنا النموذج الديمقراطي الذي نحلم به.
لكن الرؤية الاحادية لمجموعات النخب النيلية والتى هي الغالبة في السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها لا سيما التى لها اثر بليغ في تشكيل الراي العام وتوجيهه ؛ عمدت الى عدم اتاحة فرص حقيقية لبناء دولة المؤسسات ، واجهضت في الوقت ذاته على المشاريع المنفتحة لبناء الدولة القومية التى تعبر عن الأمة لصالح مشاريع احادية تعبر عن هوية وثقافة محددة ، مما خلق واقع لا يعبر عن طبيعية السودان الموقع الجغرافي والتاريخي (ارضا وشعبا) حيث مجتمعات الشعوب الاصيلة مجردة من هويتها الثقافية والاجتماعية من خلال محاولات تقزيم إرثها وتاريخها الضارب لآلاف السنيين تحت زريعة فرض الهوية الاسلاموعروبية .
وان من الغرابة بمكان ما يتنطع ويتشدق به بعض انصاف المثقفين من ان المجموعة العربية تقدر بنحو ٧٠% من جملة سكان السودان وهذا ما جعلها تفرض ثقافتها الاسلاموعروبية على بقية مكونات المجتمع .
وعلى الرغم من ان هذه الغرابة اضحى يصدقها الكثير من العامة في السودان بفعل سياسة الهيمنة المرتكزة على الاقصاء والتنميط الاجتماعي لضرب كرامة الانسان الافريقي صاحب الارض الحقيقي (جغرافية وتاريخ) الا ان قيام حرب ١٥ ابريل قد كشفت حجبا ظلت جاسمة على العقول لسنوات طويلة بفعل ادوات العنف الممنهج. فتبينت الحقائق المرة حول مدى قبول الشعوب السودانية للعيش مع بعضها البعض في بوتقة واحدة ، قياسا مع تاثير عدم الرغبة من الحكومات المتعاقبة في ادارة التنوع الثقافي والاجتماعي والعرقي بوعي واخلاق للمحافظة على الوحدة التى يتباكون عليها كذبا وافتراء ويصنعون اسباب تمزيقها واقعا لا يكذبه الا منافقا معلوم النفاق ..
واننا في خضم ما انتجته حرب ١٥ ابريل من تشظي في المجتمعات السودانية على أسس عرقية وعنصرية بفعل كثافة خطاب الكراهية الممنهح ظلت مساحات التلاقي بين فرقاء الوطن الجريح مسالة مستعصية واقعيا ولكن يمكن ان يبنى وهما بأنه يمكن ترتيبها مرة اخرى بذات المعايير القديمة التى تنتهج سياسات التفرقة حتى لو كانت النتيجة انفصال دارفور على ذات منهج فصل الجنوب.
وتكوين الدولة الاحادية ذات الثقاقة والهوية الواحدة مرة اخرى متجاهلين مجددا الثقافات الاخرى ليتكرر مشهد الجنوب و دار فور التى اصبحت غاب قوسين أو ادنى من الانفصال لمناطق اخرى كشرق السودان ووسطة وربما اقصى شماله.
ان هذا العقل الكسيح للنخب السودانية ما يزال ينتج الفشل ويسبح عكس التيار وان تجرية حرب ١٥ ابريل وما خلفته من دمار في البنية الوحدوية المتوهمة للسودان والتى تجلت في خطابات الكراهية وبشاعة العنف اللفظي والجسدي من خلال ما وثقته منصات الاعلام الجديد لأكبر برهان على الحالة المرضية التى تتلبس مؤسسات الوعي من احزاب وقوى مدنية .. يتماهى خطابها الفوقي مع مضامين خطاب الهوية لمجموعات
الاسلاموعروبية ، والذي يشي للبعض بانه خطاب الغالبية من سكان السودان ، وهذا ما دعانا الى الجزم بان القوى السياسية المركزية والتى تعبر عن مصالح نخبوية ضيقة هي الأزمة الحقيقية في تكريس سلطة العسكر طوال الحقب الماضية ؛ وبطبيعة الحال نحن هنا لا ننفي الأدوار السالبة للمؤسسة العسكرية جراء تدخلاتها في السيطرة على الحياة السياسية .
وهذا موضوع طويل ومعقد ويتعلق بشكل مباشر ببنية هذه المؤسسات العسكرية أو المدنية ومدى قوميتها من حيث البناء ، وطبيعة علاقاتها مع المستعمر الذي تشكلت في حقبته.
ان عدم الاعتراف بهذه الاخفاقات الجوهرية في بنية تاسيس الدولة منذ فجر الاستقلال والإصرار على رهن ارادتها للخارج وفق مشاريع احادية سوف يقسم هذه البلد الى دويلات عدة فهل هذا ما تسع اليه هذه النخب المتسلطة !!
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة