في كل عام، ومع اقتراب بعض المناسبات الدينية، تتجدد على منصات التواصل الاجتماعي نقاشات قديمة في صورة جدل محتدم، لا يخلو من تجريح وتشكيك ومناكفات متكررة.

ومن أبرز هذه القضايا التي تتحول إلى مادة خلافية موسمية: مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، التي تحظى بنقاش يتجاوز في كثير من الأحيان البعد الفقهي الرصين إلى مساحات من التهجم والتبديع والتضليل المتبادل.

واللافت أن هذا الجدل لا يعكس دائما رغبة صادقة في طلب الحق أو تبيين الصواب، بقدر ما يكون محكوما أحيانا بالرغبة في التصدر أو تسجيل المواقف. كما أن سرعة انتشار المنشورات وردود الأفعال في الفضاء الرقمي تخلق بيئة خصبة لإثارة الجدل، فيغيب التحري، ويُتجاوز فيها كلام أهل العلم وتاريخ الأمة الراسخ في الاحتفاء بهذه المناسبة.

ومن هنا، تأتي الحاجة الملحة لاستحضار فقه المناسبات، لا بوصفه فقهًا مرتبطًا بالتواريخ فقط، بل باعتباره وعيا بأهمية المناسبات في حفظ هوية الأمة، وتغذية وجدانها الجمعي، وربطها بسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم في سياق من الفرح المشروع، والاستحضار المحمود.

تناول هذا الموضوع الهام والمتجدد بشكل دقيق يقتضي تقسيمه إلى محاور ثلاثة أساسية:

المحور الأول: الجدل حول بدعية المولد النبوي

يتكرر كل سنة، مع اقتراب الثاني عشر من الربيع النبوي جدل حاد حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وتحديدًا من بوابة “البدعة”. إذ يصر بعض المتصدرين للحديث والفتيا في مواقع التواصل الاجتماعي على توصيف المناسبة بالبدعة الضلالة، دون تمييز بين البدعة المذمومة والبدعة الحسنة، أو تفصيل في أنواع المحدثات، كما نص على ذلك علماء السلف.

هذا الجدل ليس وليد اليوم، لكنه يعود إلى قرون خلت، وقد حسمه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، الذين أثبتوا جواز الاحتفال بالمولد النبوي، وعدوه من قبيل البدع الحسنة التي تُعبر عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وتُحيي سنته، وتُذكر الناس بسيرته.

على رأس هؤلاء الأعلام: الإمام جلال الدين السيوطي الذي قال: “يستحبُّ لنا إظهار الشكر بمولده صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، والاجتماع وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات، وإظهار المسرّات” [1] كما أقر الاحتفال بالمولد النبوي الإمام ابن حجر العسقلاني بقوله : ” إنَّ اتّخاذَ الوليمَةِ وإطعامَ الطّعامِ مُستحبٌّ في كلِّ وقتٍ فكيف إذا انضَمّ إلى ذلك الفرحُ والسُّرورُ بظُهور نور النّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلَّم في هذا الشَّهْرِ الشَّريفِ”. [2]

وذهب إلى جوازه الإمام ابن تيمية أيضا، ويدل على ذلك ما أورده بقوله: ” فتعظيم المولد، واتخاذه موسماً قد يفعله بعض النّاس، ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم” [3]

فيما جنح الإمام ابن الحاج المالكي إلى أكبر من ذلك، وصنف الاحتفال بالمولد النبوي ضمن العبادات بقوله: “فكان يجب أن نزداد يوم الاثنين الثاني عشر في ربيع الأول من العبادات، والخير شكراً للمولى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة؛ وأعظمها ميلاد المصطفى صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم”[4] و غيرهم من كبار المحققين.

لكن بالرغم من هذا، يعاد طرح المسألة وكأنها حديثة لم تُبحث من قبل، وغالبًا ما يُتناول الموضوع في وسائل التواصل الاجتماعي بمنهج بعيد عن الأصول العلمية والضوابط الفقهية، فيُغيب الاستدلال، ويُستحضر التكفير والتبديع، في مشهد يُفرغ المولد من أبعاده الروحية، ويجرده من سياقه التربوي الذي يربط الأمة بنبيها الكريم، ويغذي حبها له واتباعها لسنته.

والاشكال الحقيقي من هذا الجدل الموسمي أن المانعين لهذه الاحتفالية يعترضون على الاحتفال من أصله لا عن كيفيته؛ إذ الناظر في كيفية الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب سيدرك أنها طريقة مشروعة، قال الشيخ محمد الخضر التونسي المالكي (1378 هـ ) شيخ جامع الأزهر سابقا: “أما احتفالنا بذكرى مولده فإنا لم نفعل غير ما فعله حسّان بن ثابت رضي الله عنه حين كان يجلس إليه الناس و يُسمعهم مديح رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعر، ولم نفعل غير ما فعل علي بن أبي طالب أو البراء بن عازب أو أنس بن مالك رضي الله عنهم حين يتحدثون عن محاسن رسول الله الخُلقية و الخلقية في جماعة”. [5]

المحور الثاني: الفضاء الرقمي وتكريس الفقه الموسمي

لقد تحوّل الفضاء الرقمي، بما يتيحه من سرعة الانتشار وتعدد المنصات، إلى ساحة مفتوحة للنقاشات الدينية الموسمية، حيث تُستدعى قضايا خلافية عند كل مناسبة، ويُعاد اجترارها بطريقة تكرس خطاب الإثارة بدل التأصيل، والانفعال بدل الفهم.

ويأتي في مقدمة هذه القضايا النقاش المتجدد حول “بدعية المولد النبوي”، الذي يتحول مع كل موسم إلى منبر للمناكفة أكثر من كونه ساحة للفهم والتقريب.

إن الإشكال لا يكمن في مبدأ النقاش ذاته، ولكن في منطق التأزيم الذي يسود الكثير من الخطابات المنشورة، حيث توظف نصوص الشرع لاتهام الآخر، وتُستثمر عبارات العلماء خارج سياقها لإثبات التبديع والتضليل، مع غياب شبه تام لحس المقاصد، وانعدام لروح التراحم العلمي، بل أحيانًا في غياب أبسط ضوابط الأمانة العلمية.

وهكذا يُكرس هذا الحضور الموسمي للفقه، حالة من التجزيء في التديّن، حيث تُختزل المناسبة في “حلال وحرام”، دون استثمارها في تعزيز الوعي الرسالي، أو تعميق محبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ربط الناشئة بسيرته وأخلاقه.

الفضاء الرقمي اليوم يحتاج إلى فاعلين علماء ورُشداء، يبثون الوعي، ويعالجون الانفعالات، ويربطون الناس بجوهر الدين، لا بقشوره، فيحولون هذه المناسبات من لحظات انقسام إلى محطات بناء وتجديد.

المحور الثالث: أثر الخطاب الموسمي على الوعي الديني والعلاقات المجتمعية

يترك الخطاب الفقهي الموسمي آثارًا واضحة على بنية الوعي الديني الفردي والجماعي، حيث يتحول الدين في أذهان كثير من الناس إلى قائمة من الممنوعات والمُبدعات التي يُعاد التذكير بها في كل موسم، لا إلى رسالة هادية وشاملة، ومصدر لبناء الإنسان والمجتمع. فبدل أن يكون المولد النبوي مثلًا محطةً للتزود من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واستلهام أخلاقه ودعوته، يصير مناسبة لإحياء الخلافات القديمة والاتهامات المتبادلة.

إن تكرار هذا النمط من الخطاب، الذي ينشط فقط مع كل مناسبة، يسهم في خلق حالة من الجمود الفقهي والاختزال في الممارسة الدينية، ويغيب البعد المقاصدي الذي هو روح الشريعة.

كما يعمق الانقسام بين مكونات المجتمع، ويزرع الشك في ثوابت عقدية ومذهبية استقرت عبر قرون، خصوصًا حين تُطعن جهارًا في المرجعية الأشعرية أو في تقاليد الاحتفال المتجذرة في الوعي الجمعي للمغاربة.

بل إن بعض هذا الخطاب يفتح الباب أمام موجات من التبديع والتفسيق المجاني، مما يولد نفورًا من الدين نفسه، لا سيما عند فئة الشباب، التي تجد في هذه المناكفات صورة سلبية عن العلماء والدعاة. لذلك، فإن تجاوز هذا الخطاب الموسمي نحو وعي فقهي رشيد ومتوازن، أصبح ضرورة ملحة لحماية التدين من التشويه، والوحدة المجتمعية من التصدع.

خاتمة:

بعد هذا العرض لمحاور النقاش الموسمي حول قضية الاحتفال بالمولد النبوي، وتفكيك أبعاده الخطابية والفقهية والاجتماعية، يتبين أن هذا الجدل المتكرر لا يخدم المقاصد الكبرى للدين، بل يسهم في تشتيت جهود الإصلاح الديني وتكريس الاستقطاب بين التيارات، على حساب وحدة الصف والاهتمام بالقضايا الجوهرية التي تمس واقع المسلمين.

وبناءً عليه، يمكن اقتراح التوصيات الآتية:

1 الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بما يراعي ثوابت المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، ويبتعد عن منطق المناكفة الموسمية.

2 ترشيد النقاشات الفقهية على المنصات الرقمية، بضوابط علمية وأخلاقية تراعي المقام والواقع، وتجمع ولا تفرق.

3 تعزيز ثقافة الاحتفال بالمولد النبوي كمناسبة للتربية على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، لا كمجال للجدل العقيم.

4 دعم المبادرات العلمية الهادفة التي تشرح مناسبات الإسلام في ضوء مقاصده الكلية وروحه الجامعة.

5 توجيه العلماء والدعاة إلى الانخراط الإيجابي في الفضاء الرقمي بخطاب وسطي، يشرح، ويقنع، ويهدي، دون إثارة أو تشنج.

فمن واجبنا اليوم أن نعيد الاعتبار لفقه الرحمة، وأن نجعل من المناسبات الدينية محطات للبناء لا للهدم، وللجمع لا للفرقة، ولنقل للناس جميعًا: إن الإسلام رحمة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم نور وهداية، فلنحتفل بها بما يليق بجلالها وقدرها.

باحث في الدراسات الإسلامية

المصدر: هسبريس

شاركها.