تبدأ القصيدة بنداء غارق في الشوق والخذلان: «بعيد عني». إنه ليس مجرد استدعاء لاسم، بل حنين يتحول إلى غياب، وحب يتجسد في هيئة فجيعة..

التغيير: عبدالله برير

في الأغنية السودانية، ثمّة لحظات يلتقي فيها الشعر بالموسيقى والتشكيل لتنتج عملاً فنياً متجاوزاً للحدود. من بين هذه اللحظات، تتوهج «وجيدة»؛ القصيدة التي كتبها الشاعر التشكيلي قريب الله محمد عبد الواحد، وغناها بصوت خالد الفنان مصطفى سيد أحمد.

إنها أغنية ليست فقط قصة حب، بل لوحة بصرية ووجدانية مكتملة العناصر.

تبدأ القصيدة بنداء غارق في الشوق والخذلان: «بعيد عني». إنه ليس مجرد استدعاء لاسم، بل حنين يتحول إلى غياب، وحب يتجسد في هيئة فجيعة. ثم تأتي صورة الخطوات التي لا تترك أثراً: «خطاك ما لامست وجه الطريق / ومشيتي ومشيتي / لا فوق غيمة لا ظني بعيد عني». كأنها تمشي في فضاءٍ لا يحفظ الذاكرة. الغياب الحقيقي هنا ليس في الابتعاد فحسب، بل في الوجود المتلاشي روحاً رغم الحضور جسداً.

تتوالى الصور التشكيلية: «كأنك من وراء صفحة زجاج مبلول / وراك الريح وقدامك مدى السكة وندا المجهول». الحبيبة خلف زجاج يغطيه المطر، الرؤية مشوشة والحضور محجوب، الريح خلفها والمجهول أمامها، كأنها محاصرة بين العاصفة والضياع. ثم يجيء النداء المكرّر «أنادي ليك وأنادي ليك / وجيدة… وجيدة / لا التفتي لا لوحتي بإيدك». إنه إصرار على الحب رغم اليأس. يتكرر الاسم ليصبح موسيقى حزينة، لكنها لا تلتفت ولا تلوّح، تاركةً العاشق في عزلة الرجاء.

وحين يقول: «يجاوبني المدى الفاتح مدارج الهم»، فإن الأفق نفسه يتحول إلى كائن يردّ بالصمت الممتلئ بالوجع. الطبيعة لا تمنح جواباً، بل تمنح حزناً يتسع مع اتساع المدى. ثم يشتد النص حتى يبلغ ذروته الرمزية: «بتبقي وجيدة طعنة سيف / موسدة في شق السماء المرسوم وسادة دم». هنا تتجسد وجيدة كجرح كوني، طعنة مغروسة في صدر السماء، والوسادة دم، في مشهد سريالي يمزج الألم بالعظمة والجمال بالوجع.

لكن النص لا يتوقف عند هذا الحد من الرمزية، بل يواصل المفارقة الكبرى: «وتبقى إيدينا في إيدك / وفي شعرك، وفي المنديل / وفي أيديك بعيد عني». الأيادي متشابكة، الشعر والمنديل في تماس، القرب حاضر، ومع ذلك يظل البعد سيد الموقف. إنها معادلة الحب المستحيل: أن يتحقق القرب الجسدي، بينما يستمر الفقد الروحي.

اللحن الذي صاغه مصطفى لـ«وجيدة» جاء خافتاً، عميقاً، أقرب إلى منولوج داخلي منه إلى أغنية عاطفية عادية. الإيقاع البطيء يشبه وقع خطوات على طريق مبلل بالمطر. الميلودية الناعمة فتحت مساحة فارغة، كأن الموسيقى أرادت أن تترك للشعر فسحة كي يتنفس. أما الأداء، فقد كان صوت الجرح الصادق. مصطفى لم يغنِّ «وجيدة» كأغنية عن حب ضائع فقط، بل كجرح وجودي. طريقة مدّ الحروف، تقطيع العبارات، وإرخاء النفس خلقت إيقاعاً داخلياً يتناغم مع الصور الشعرية المليئة بالزجاج والريح والدم. وحين يكرر: «وجيدة… وجيدة» لا يستدعي اسماً بعينه، بل يستحضر ذاكرة كاملة من الفقد، وكأن النداء نفسه يتحول إلى موسيقى موازية للحن.

أما الرمزية، فإنها تتجاوز حدود العاطفة الشخصية. وجيدة قد تكون الحبيبة الغائبة التي لا تعود، وقد تكون الوطن الممزق الذي يتسرب من بين الأيدي، وقد تكون الحلم البعيد الذي تظل تسعى إليه الأقدام ولا تصل. هنا تتجلى عبقرية النص بقدرته على فتح باب التأويل، وعبقرية الأداء بصدقه الذي يتيح لكل مستمع أن يجد «وجيدته» الخاصة.

«وجيدة» تتراءى أكثر من أغنية، بل لوحة تشكيلية مغنّاة، الشاعر التشكيلي قريب الله عبدالواحد رسمها بألوان الحزن والرجاء، ومصطفى سيد أحمد سكَب فيها صوته كخيوط من الدم والضوء. تسمع وجيدة بالقلب كعمل فني خالد يبرهن أن الأغنية السودانية ليست طرباً فحسب، بل فناً شاملاً يذيب الشعر والموسيقى والرسم في بوتقة واحدة.

تقول كلمات قصيدة وجيدة، وهي من كلمات الشاعر، قريب الله عبدالواحد:

بعيد عني

خطاك ما لامست وجه الطريق

ومشيتي ومشيتي

لا فوق غيمة لا ظني بعيد عني

كأنك من وراء صفحة زجاج مبلول

وراك الريح وقدامك

مدى السكة وندا المجهول

أنادي ليك وأنادي ليك

وجيدة.. وجيدة

لا التفتي لا لوحتي بي إيديك

أنادي ليك

يجاوبني المدى الفاتح مدارج الهم

بتبقـــــي وجيده طعنة سيف

موسده في شق السماء المرسوم

وسادة دم

وتبقى إيدينا في إيديك

وفي شعرك، وفي المنديل

وفي إيديك بعيد عني

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.