عبدالله رزق أبو سيمازة
يلفت النظر، ابتداء، ما يمكن وصفه بافتقار مؤلف ” المتن الروائي المفتوح، فن القص السردي عند الطيب صالح ” للاستاذ محمد خلف، لحد ما إلى إحكام تقعيد ما صكه من مصطلحات مفتاحية ، من قبيل ” المتن المفتوح ” و ” النص المغلق” و ” و القصة الطويلة “، ومقتضى ادراج نصوص الطيب صالح السردية في إطار ” المتن المفتوح ” المقترح . يتعلق الأمر، أيضا، في هذا الاطار، بتصنيفه ل” دومة ود حامد ” كقصة ، لا رواية، مثل ” موسم الهجرة للشمال”، والتي يسبغ عليها صفة ” الطويلة “، تمييزا لها عن “القصيرة “، وفق رؤيته، المتمثلة في ” نخلة على الجدول “، بحيث تبدو مفردة “قصة”، وعبارة “قصة طويلة ” مترادفتين .( ربما يجوز التقرير بقرب ” دومة ود حامد “، ببساطتها ، وقلة شخوصها، وأحداثها، من بنية القصة القصيرة، وقد ينسحب القول على ” اللص والكلاب ” لنجيب محفوظ، و ” قصة موت معلن” لماركيز ). غير أن الأمر يتعلق، بقصة طويلة، وربما برواية قصيرة، ايضا،
وهو ما سيفسح المجال لإعادة تعريف وتوصيف المصطلحات الخاصة بالسرد، ومعاييره، إذا كان عدد الصفحات، أو حتى الكلمات، لا الوزن، ولا الوحدة القياسية للمعلومات بت /بايت، المعمول بها في مجال الحاسوب، هي المعيار . مع أن الأستاذ محمد خلف، يقبل، في أحد هوامش كتابه (ص ٥٠)، بتوصيف رائعة خورخي أمادو ” كان كان العوام، الذي مات مرتين “، كرواية . وفي حين أن رائعة الطيب صالح ” موسم الهجرة للشمال “، قد لا تحوز اكثر من تصنيف ” قصة طويلة ” ، مقابل انجاز ديستويفسكي، بالغ الروعة : ” الإخوة كارامازوف “، ذي الثمانمائة صفحة !
قد لا يتوفر، بين ظهرانينا، في المدى المنظور، كاتب طويل البال، مثل دوستويفسكي، وقارئ صبور . فالراجح، أن تواطؤ ذائقتي القاريء والمؤلف المعاصرين ، قد يعزز خيار “القصة الطويلة ” أو ما يمكن تسميته، بعبارة أخرى: “الرواية القصيرة “، على ما عداه .
يضم كتاب ” المتن الروائي المفتوح “عديدا من المقالات، الا أن بعضها لا ينسلك بصورة واضحة، في إطار العنوان الذي يحمله الكتاب . بعض المقالات، والتي يمكن عدها جوهر الكتاب ، والتي تمت ترجمتها إلى الإنجليزية، قد تستجيب لذلك الشرط، وتستوفيه.
إن الاحتفاء بالطيب صالح وإبداعه، والذي ظل متصلا ومتواترا، وبما لم يحزه اي روائي أو قاص سوداني آخر، منذ أن اكتشف، صديق حسن ابراهيم، قبل مايزيد على ستة عقود من الزمان، موهبة، خلال قراءته، لقصة ” نخلة على الجدول “، ونوه بها، وفق ما أورده محمد سيد احمد، في مذكراته ” في سياق الأحداث “. يعزز ذلك ما كتبته، في روزنامة الراحل الاستاذ كمال الجزولي، قبل ما يقارب ربع القرن، بأن الطيب صالح، ليس امتدادا للقصة أو الرواية السودانية، واقترحت، تأسيسا على واقع السرد السوداني، قبل وبعد الطيب صالح، فرضية اندراجه في سياق آخر، ماوراء الحدود . وتؤكد وقائع التناص، ودراسة محمد خلف لمصادر إبداعه، اتصاله بقمم الابداع العالمي في هذا المجال : خورخي امادو، البير كامي، ديستويفسكي …الخ . بل إن المؤلف، يقرر في غير مواربة، إسهام الطيب صالح مع آخرين، في “خلق الرواية العربية مما يشبه العدم ” ص (٤١).
ويؤشر الاحتفال، بتدشين كتاب الاستاذ خلف، مطلع هذا الأسبوع، بمركز التسامح، وبمشاركة البروفسور محمد المهدي بشرى، والأساتذة نادر السماني وصلاح النعمان ومنى الرشيد نايل، وجمع من المثقفين والمهتمين، الحيوية التي لازال يتسم بها ابداع الطيب صالح، بجانب قدرته على الإلهام..
ينصب الجهد الرئيس للمؤلف، محمد خلف، على إعادة اكتشاف الطيب صالح، من خلال كتاباته السردية وغير السردية وعلى خلاف نحو القراءات التي تنزع لتغييب المؤلف , لأجل تكريس النظر كليا، على أعماله لتعميق معرفتنا بالصالح الطيب، وهو ما يتسق مع دعوته لنا للالتفاف حول رمزيته .
وتشمل عملية الكشف والتقصي النقدي، بجانب مصادر إبداعه، ميوله السياسية . غير أنها لم تصل لخلاصة نهائية، حول ما إذا كان الطيب صالح سياسيا تقليديا ام ليبراليا . وتوقف الاستاذ خلف، مليا، في جانب المسكوت عنه، أو ما لم يقله الطيب صالح، عند ما أسماه “استبعاد الرموز التاريخية ” (ص ٣١)، وهي الآثار العائدة للحضارات سابقة للإسلام، التي تنتشر في قرية ود حامد وفي محيطها، مسرح احداث قصص وروايات الطيب صالح. واذا كانت الإشارة لهذه الآثار أو تضمينها في النص، تمثل ضرورة فنية لتطويره، فإن ذلك يسهل طرح التساؤل حول ما إذا كان الطيب صالح، قد تأثر، بشكل أو آخر، بايديولوجيا الإخوان المسلمين .
ومع ذلك فان عملية الكشف تقصر عن الإجابة على السؤال الذي شغل القراء والنقاد، منذ الصدور الاول لرواية ” موسم الهجرة إلى الشمال”، ويتعلق بما إذا كان مصطفى سعيد هو الطيب صالح، نفسه . ويمكن إضافة سؤال مماثل، بشأن ما إذا كان هو شيخ الحنين.
غير أن أبرز ما تخطته عملية إعادة الكشف والتقصي النقدي، هو الوقوف عند رواية ” الطليعي الاسود ” لمؤلفها ادوارد عطية، وفحص ما تحتشد به من تماثلات مع رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، تتصل بالصراع الحضاري، وميادينه، التي تتوزع بين البندر الإمبريالي والوطن المستعمر، ومآلاته، والشخصيات المحورية، ومصائرها ، أو ما قد تنطوي عليه الأخيرة من تناص . فعلى الرغم مما أكده من انفتاح الطيب صالح على الابداع العالمي، وما أسماه حوار روايته موسم الهجرة الشمال مع قمم سردية، اشتهرت بتمحورها حول ثيمة صراع الشرق والغرب، من قبيل : الحي اللاتيني ويوميات نائب في الارياف، وقنديل ام هاشم والطليعي الاسود ( ص ٤١)، الا أن الأخيرة، كانت تقتضي منه وقفة اطول، لانها بخلاف الروايات سالفة الذكر ، فإن الطليعي الاسود، تتميز بتماثل أجوائها، لحد بعيد مع موسم الهجرة الشمال . فبطلها، أو الشخصية المحورية فيها سوداني، يذهب إلى بريطانيا لتلقي ارقى تعليم في الغرب، وليتشبع بقيمه، مما يدفع به نحو التمرد على ثقافته المحلية، التقليدية، ونحو التمزق لما يصاحب هذا النزوع من صراع نفسي .
المصدر: صحيفة التغيير