ليس هناك خلاف
خالد فضل
بين القوى التي أنجزت أو ساهمت في الثورة الشعبية ضد النظام الإسلامي السابق في السودان حول نقطة “تسقط بس”، وهو الشعار الذي ابتدأ به التحرك الجماهيري المحدود في البداية، ثم اتسع لاحقًا ليحل محله شعار “حرية سلام وعدالة” وقيادة تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير” للتحرك اعتبارًا من مطلع يناير 2019م.
إنّ كلا الشعارين فضفاضان، يحتملان التأويل، فـ”تسقط بس” مثلًا تعني عند عوض ابن عوف: خلع رأس النظام والتحفظ عليه في مكان آمن، والكثير من السودانيين ربما يشاطرونه هذا التأويل. أمّا “حرية سلام وعدالة”، فهذه مصطلحات محل اختلاف دون شك، ليس هناك ضبط موحد لبوصلة التعريفات لهذه الشعارات. فالحرية ليست نسخة وحيدة في أذهان كل الناس، وكذلك السلام وحتى العدالة لها عدة صور حسب موقع الشخص. من هنا تنشأ الأوضاع الطبيعية للاختلافات بين القوى السياسية المدنية، والتي تأثرت كلها بانقطاع التجربة؛ لأن استمرارها يفرز آليًا واقعًا جديدًا يقتضي المواكبة أو التلاشي. هذا الانقطاع يشبه إيقاف جهاز التسجيل في نقطة محددة، فعند العودة للتشغيل تجد نفسك قد ابتدأت منها وإن غبت عن الاستماع لعشرات السنين. ولعل هذا حال بعض القوى السياسية الآن.
واقع التجربة السياسية السودانية الصريح يمنح القوات المسلحة والأجهزة الأمنية صفة “خبرة الفشل” في الحكم والسلطة، أكثر من أي تنظيم سياسي مدني على الساحة، بفضل استمرار هذه الأجهزة في ممارسة السلطة والحكم دون انقطاع يُذكر على مدى 70 سنة. إنها دومًا في كامل اللياقة البدنية على الأقل، في بلد يُدار بالعضل لا بالعقل. وهو ما عبّر عنه قائد الجيش مؤخرًا بشعار “المجد للبندقية”.
هذا هو واقع الحال، وبمثل ما تناسلت القوى المدنية، فكل تنظيم أنجب عن طريق الاستنساخ عشرات النسخ، على غرار النعجة “دوللي” وما تلاها، كذلك أنجبت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية عشرات العضلات المسلحة لمواصلة الصراع الأزلي بين العقل والعضل، فيما تتبدل المواقف بتقارب هذا الفصيل المدني مع تلك المليشيا المسلحة أو ميل هذا العضل المسلح إلى ذاك العقل في الفصيل المدني وهكذا. الثابت الوحيد هو استمرار سيطرة وتحكم العضل على العقل، مع ملاحظة وجود نسخة مستمرة تزعم أنها الأصل، سواء على مستوى التنظيمات المدنية أو التشكيلات العسكرية الأمنية، في تجاهل تام لحقائق الواقع التي طمست الأصول، فلم يعد المرء يعبأ، كما لم يعبأ المتنبي:
ولست أبالي بعد إدراكي العلا *** أ كان تراثًا ما تناولت أم كسبا
نحن الآن في واقع مجتمع لم يهنأ بالسلم، لم ينعم بالعيش في سلام واطمئنان منذ خروج الاستعمار، بل لم يتمتع بنعمتي الإطعام من جوع والأمن من خوف، وهما الركيزتان الأساسيتان لرشد العقل البشري، ولعل سيطرة العضل هو المتسبب في هذه الحقيقة المؤسفة، فما مر عام إلا وفي بلاد السودان جوع، وعذرًا بدر شاكر السياب على التحريف؛ ففي بلاد العراق ثمّة أمل في تجاوز الجوع باستمرار تجربة حكم العقل وتنحي العضل.
إزاء هذه الوقائع الماثلة في تجربة عيش السودانيين في بلادهم، ومقارنة بتجربتهم الطويلة كذلك في عيش بعضهم في بلدان أخرى بعيدة وقريبة، هل ثمّة عبر ودروس؟ هل من سؤال مُقلق: لماذا نحن هكذا؟ لماذا بلادنا متخلفة؟ ثم هل استلهم من نعموا بالعيش في بلدان ديمقراطية شعوبها حرة أي مغزى لمتلازمة الحرية والتقدم؟ أم تُرى بعضهم يعيش في كنف العالم الحر مقيدًا بسلاسل تخلف بلده المكبل بالأغلال كما شاهدنا فاصلًا من ذلك في لندن قبل بضعة شهور!!
مطالب الثورة كثيرة، تحتاج إلى عقود من العمل المتصل والتجربة الديمقراطية المستقرة، وليس من المحتمل إنجازها خلال فترة انتقالية قصيرة مهما برع القائمون على أمرها. إنّ الحرب في العقول كما هو معلوم، ولا يخفى أنّ عقول ملايين السودانيين تشكلت في واقع الحروب، فكيف يتم تصويبها نحو السلام بدون تدرج موضوعي؟ تلك مهمة القوى المدنية ودورها أن تسعى رويدًا رويدًا لإخراج الناس من “غباء العضل” إلى “رشد العقل”، فهل تشير أدبيات وبيانات هذه القوى إلى ذلك؟ أم أنّ المواقف صمدية؟ وهل من الواقعية السياسية في بيئة الحروب التمترس خلف شعارات لا يعترض أحد على صحتها، لكن يبقى السؤال الأهم: كيف؟ كيف نسترد الثورة، ونستكمل برامجها؟ كيف نخرج القوات المسلحة من خلل حقل خبرتها وتجربتها التاريخية الفاشلة؟ كيف نحل المليشيات؟ وهل في مقدور الجماهير أن تنجز ذلك؟ أي جماهير، هل يمكن لمليون شخص احتشدوا في موكب، إن أمكن ذلك في بيئة الحرب، أن يجبروا قائد الجيش وقائد الدعم السريع على الهرب وترك السلطة لتلك الجماهير تشكل حكومتها وجهازها التشريعي وتقيم العدالة فيهم عبر قضائها وأجهزتها العدلية؟ لقد خرجت المواكب ومهرها مئات الشباب بأرواحهم، مقامهم مقام ارتقاء دون شك، ولكن خلع رأس النظام تم بوساطة القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. أيًا كان المسمى: “اللجنة الأمنية للنظام” أو غير ذلك، المهم أن الفعل نفسه لم تحققه الجموع الثورية الغاضبة لوحدها. الآن إذا أردنا استرداد الثورة لتكمل مهامها، هل من سبيل بدون وجود دور للتشكيلات المسلحة في تلك العملية؟ الخيار الآخر أن تشكّل جماهير الثورة قوات مسلحة تتفوق على القوات الحالية وتهزمها حتى تستسلم، ومن بعد يتم إجراء حكم الثورة على المهزومين كعادة أي ثورة مسلحة منتصرة. فهل هذا متاح في المدى المنظور؟
واقع السودان من حيث السيطرة العسكرية يقول بوجود أربع قوى على الأقل تسيطر على مساحات من التراب السوداني، هي: الجيش، الدعم السريع، الجيش الشعبي لتحرير السودان شمال/قيادة الحلو، وحركة جيش تحرير السودان/عبدالواحد، وهناك تشكيلات عسكرية متحالفة مع هذا الطرف أو ذاك. هناك تحالفان رئيسيان يضمان تشكيلات عسكرية هما: تحالف “مواصلة الحرب حتى القضاء على الدعم السريع والقوى المدنية المتحالفة معه” ويقوده الجيش، مقابل تحالف “تأسيس” وعلى رأسه الدعم السريع؛ الذي يطرح مشروعًا سياسيًا تأسيسيًا ينهي الحرب تمامًا في البلاد بإعادة تأسيسها من أول جديد كدولة تضم جميع السودانيين دون تخصيص مجموعات بالاستئصال والسحق والمحق وإعدام الوجود وتصفية النسل. ثم هناك تحالفات مدنية لا تضم فصائل مسلحة مثل تحالف “صمود” و”التغيير الجذري”. الملاحظ أنّ تحالف “استمرار الحرب حتى القضاء على الدعم السريع وحلفه” لا يطرح شعارات استرداد الثورة واستكمال مهامها، بل يعمل فعليًا على تقويض آثارها تمامًا واسترداد العهد المباد واستكمال التمكين، بينما تحالف “تأسيس” يرفع شعارات الثورة أسوة بالتحالفات المدنية “صمود” و”الجذري”، وعليه يصبح تحالف “تأسيس” أقرب نظريًا لتحالفي القوى المدنية المذكورين. فما أوجه الخلاف الجذري بينها؟ وهل هي خلافات تعلو على هدف استعادة الثورة واستكمال مهامها؟ أم هي خلافات ناجمة من عدم الثقة بين أفراد هذه التحالفات؟ وهل من الممكن عمليًا الوثوق بشكل مطلق في أي مجموعة بشرية؟ هذا أمر مستحيل بالطبع، وليس من طبيعة التكوين البشري القائم على فردانية تفكير ومشاعر كل واحد مهما تقارب مع الآخرين، لكنه لا يمكن التطابق وإلا صار الناس كلهم نسخة واحدة بعدة صور مثل أي مذكرة مدرسية تطبعها آلة النسخ.
المطروح الآن مشاريع سياسية، يمكن النظر فيها، والأخذ والرد حولها، والتفاهم بين من ينضوون تحت بنودها، وغدًا إذا ثاب الإسلاميون إلى الرشد وعبّروا عن رغبتهم في استرداد الثورة وإكمال مهامها بما في ذلك تفكيك التمكين وإجراءات العدالة في المشتبهين منهم، بل تم تسليم المتهمين للمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها، وسعوا للتفاوض والتفاهم مع التحالفات التي تتبنى هذه الشعارات، هل سيتم قفل الباب أمامهم وطردهم من “الجنة الثورية المزعومة” باعتبارهم “إبليس”؟ ناهيك عمّن يتبنون هذه الشعارات بالفعل اليوم ويبرمون التحالفات على ضوئها بل ويخوضون الوغى ويتعرضون لكل مآسي القتال تحت راياتها منذ عقود. هل من العقل أن يتم وصمهم ببساطة بخيانة الثورة، ونكوصهم عن استكمال برامجها؟ من وما هي الجهة أو الأفراد الذين امتلكوا ناصية الحكمة والتقرير والفرز لمسار الثورة واستكمال برامجها؟ وكيف تُسترد هذه الثورة وتستكمل برامجها وأهدافها إذا كان الداخل مقموعًا ومقسمًا بالحروب وخطابات الكراهية على أسس دون الوطنية ودون الثورية ومدججًا بالسلاح والمليشيات، ومسيطرًا عليه بوساطة جهاز أمن ومؤسسات النظام المباد والفلول، والخارج مرفوض، لأنه يتربص بالثروات والسيادة الوطنية؟ من هي الجماهير المقصودة بالاستنهاض، في الواقع المعلوم؟ وهل من بينهم من هو محروم من وثيقة الهوية أو شهادة الميلاد لمولوده الحديث، وعملته فقدت الصلاحية في بعض الأنحاء، وأطفاله محرومون من حق التعليم، وأساتذة جامعاته يفصلون من الخدمة لأنهم وجوه غريبة؟ أم أنّ استرداد الثورة واستكمال مهامها واجب يخص فئة معينة من الشعب تنظيمًا أو تحالفًا في جهات محددة، وما على الآخرين سوى السير على الطريق المرسوم لإستعادة الثورة واستكمالها وإلا اعتبروا من المتطفلين.
للاستاذ الحاج وراق فكرة راجحة، “استراتيجية موحدة بتاكتيكات ووسائل متعددة”، فلماذا لا يتواطأ أصحاب المصلحة في الثورة والتغيير وبناء السودان الجديد على تلك الفرضية؟ هذا هو مضمار تطور الفعل السياسي الرشيد وليس التمترس خلف شعارات وكأنها الفعل نفسه، فهلا تنظر قوى الثورة في الواقع أم يظل بعضها حبيس الشعار؟
المصدر: صحيفة التغيير