خالد كودي
عن العودة للاتفاق الإطاري والتعويل على المجتمع الدولي:
١/ تابعت في الآونة الأخيرة دعوات متكررة من قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني وبعض الشخصيات التي تُصنَّف “وطنية” تطالب بالعودة إلى الاتفاق الإطاري (5 ديسمبر 2022). غير أن هذه الدعوات في جوهرها ليست سوى تكرار لوهم سياسي قديم درجت عليه النخب السودانية لعقود، يقوم على الاستنجاد بالمجتمع الدولي لحل أزماتها الداخلية. هذه النخب، سواء كانت حزبية أو مدنية أو منتحلة للصفة “الوطنية”، لا تلجأ إلى الخارج بسبب قناعة بفاعليته، وإنما بسبب عجزها عن تقديم مشروع وطني ثوري حقيقي، وخوفها من مواجهة ما يعنيه مشروع مثل “تأسيس” من تهديد مباشر لامتيازاتها التاريخية.
إن ما قدمه تحالف تأسيس من رؤية وطنية ثورية دستورية وسياسية قد تجاوز جميع الأطروحات التي روجتها النخب منذ الالستقلال. غير أن هذه النخب، بوصفها حاملة لإرث الامتيازات التاريخية، تتحاشى هذا المشروع، لأنها تدرك أن نجاحه يعني تقويض امتيازاتها لصالح دولة المواطنة والمساواة.
ومن هنا، يصبح الهروب إلى الخارج واستدعاء المجتمع الدولي بل وحتى الاستعمار والفزاعات القديمة سلوكاً ثابتاً في خطابها السياسي. إنه ليس فقط افتقاراً إلى الثقة بالنفس، بل أيضاً خشية من الاعتراف بحقيقة أن امتيازاتهم التاريخية باتت موضع مساءلة ثورية، وهان وقت هدمها!
والواقع أن الارتهان للخارج ليس جديداً في تاريخ السودان المعاصر. فمنذ بدايات الحكم الوطني، كثيراً ما لجأت النخب إلى القوى الإقليمية والدولية لحماية نفوذها أو لتبرير عجزها، من الارتماء في أحضان القاهرة والرياض، إلى التعويل على واشنطن والترويكا، وصولاً إلى الرهان الحالي على الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والترويكا وما اليه. هذه الحلقة المفرغة من الاستجداء السياسي لم تفضِ يوماً إلى بناء مؤسسات وطنية قوية، بل أسهمت في تكريس دولة المركز وهيمنة النخب على حساب الشعب السوداني ومستقبله.
تجارب التاريخ القريب والعالمي تثبت أن التعويل على الخارج لا يُنتج سوى حلول سطحية أو هشّة. ففي البوسنة والهرسك، كرس اتفاق دايتون (1995) الانقسامات بدلاً من تجاوزها. وفي هايتي، لم يمنع وجود قوات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الانهيار والفوضى. هذه الأمثلة توضح أن أي حلول تأتي من الخارج، دون رؤية وطنية مدعومة بإرادة شعبية، تبقى عاجزة عن مداواة الجراح، مهما بدت أنيقة في نصوصها. وعليه، فإن العودة إلى الاتفاق الإطاري ليست مجرد تراجعاً دستورياً وسياسياً عن مكتسبات مشروع “تأسيس” حديث التكوين، بل هي أيضاً ارتهان جديد لإرادة الخارج، وتغافل عن أن الأزمة السودانية لا يمكن أن تُحل إلا بجرأة السودانيين أنفسهم على مواجهة تاريخهم وصياغة مستقبلهم بأيديهم.
إن ما يميز “تأسيس” أنه لم يقع في هذا الفخ؛ بل تقدم خطوة على جميع تلك الأطراف التي تفتقر إلى الثقة في قدراتها الذاتية، فطرح مشروعاً تأسيسياً جذرياً يجعل الشعب السوداني وقواه الثورية في صميم العملية السياسية، بعيداً عن الوصاية الدولية. والفرق الجوهري هنا أن “تأسيس” يدعو إلى إبداع وطني ثوري يقطع مع دولة الهيمنة والإصلاحات الترقيعية، بينما تظل النخب الأخرى أسيرة عقلية الاستجداء، عاجزة عن مواجهة مسؤوليتها التاريخية، وخائفة من لحظة الحساب التي تعنيها دولة المواطنة والمساواة.
٢/ التعارض الدستوري والشرعية السياسية أولاً: الشرعية الدستورية تستند وثائق “تأسيس” (الميثاق، الدستور الانتقالي 2025، المبادئ فوق الدستورية) إلى مبادئ فوق دستورية صُمِّمت لإحداث قطيعة مع الدولة السودانية القديمة وإعادة تأسيسها على أسس حديثة، قائمة على المواطنة المتساوية والاعتراف بالتعدد. هذه المبادئ، غير القابلة للتعديل، تتناغم مع القواعد الكونية التي نصّت عليها المواثيق والأعراف الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التمييز العنصري. ومن أبرز هذه المبادئ لمن لايعي:
فصل الدين عن الدولة بوصفه ضمانة جوهرية للحياد الدستوري وصون التعدد
الحق في تقرير المصير كأحد المبادئ المعترف بها في القانون الدولي
عدم الإفلات من العقاب باعتباره شرطاً لتحقيق العدالة الانتقالية والتاريخية معاً في المقابل، يربط الاتفاق الإطاري (2022) العملية السياسية باتفاق جوبا للسلام (2020)، وهو اتفاق أثبت فشله بفعل الحرب الجارية، وانقسام الحركات الموقعة عليه، وعجزه عن ادراك ومعالجة جذور الصراع.
ومن ثم، فإن العودة إلى الاتفاق الإطاري بعد ميلاد “تأسيس” ليست سوى نكوص دستوري وثوري، لأنها تحاول تمرير وثيقة انتقالية مؤقتة في مواجهة ميثاق يجاوب علي جذور المشكلة، ودستور تأسيسي شامل يسعى إلى تأسيس نظام عادل، حديث و سلام مستدام.
ثانياً: الشرعية السياسية وُقِّع الاتفاق الإطاري بين المكوّن العسكري الذي انقلب على الثورة وقوى الحرية والتغيير/المجلس المركزي التي انحرفت بمسارها وقايضت مطالبها. وهو بذلك يمثل صفقة بين طرفين فقدا معاً الشرعية الثورية والثقة الشعبية.
أما “تأسيس”، فيستند إلى تحالف واسع يضم قوى ثورية مدنية، وحركات مسلحة، وقوى اجتماعية وشعبية من الهامش، ومن كل السودان. ويستمد شرعيته من مشروع تاريخي لتحرير الدولة من بنيتها الإثنوإسلامية القديمة، وإعادة تأسيسها على أسس جديدة: علمانية، ديمقراطية، لا مركزية، قائمة على العدالة والمواطنة المتساوية. وعليه، فإن الاتفاق الإطاري ليس سوى وثيقة ماضٍ سياسي تعيد إنتاج مناورات النخب، بينما تشكّل وثائق “تأسيس” وثيقة مستقبل ثوري ترسم ملامح الدولة الجديدة.
٣/ البنية المؤسسية: إصلاح المركز أم تفكيك الدولة القديمة؟ يتحدث الاتفاق الإطاري عن “إصلاح المؤسسات” الجيش، الشرطة، المخابرات، الخدمة المدنية لكنه يفعل ذلك من داخل بنية الدولة المركزية نفسها، محدداً أفقه في انتخابات بعد 24 شهراً. وهو بذلك يعيد إنتاج الحلقة المغلقة التي عاشها السودان منذ 1964: إصلاح محدود، انتخابات، ثم عودة الأزمات!
في المقابل، تضع وثائق “تأسيس” مسألة تفكيك الجيش وإعادة بنائه على أسس قومية جديدة، وتربط إصلاح المؤسسات بمبدأ العدالة التاريخية واللامركزية الجذرية. الفارق هنا جوهري: بين إصلاح جزئي من داخل بنية قديمة (الاتفاق الإطاري) وإعادة تأسيس شامل لبنية جديدة (وثائق تأسيس.)
٤/ قضية الدين والدولة: يكتفي الاتفاق الإطاري بالحديث عن “مدنية الدولة” و”عدم فرض الدين”، مستخدماً عبارات فضفاضة قابلة للتأويل السياسي، دون نص صريح على العلمانية أو فصل الدين عن الدولة. وهذا الغموض يعكس افتقاراً للجدية في معالجة أصل الأزمة، لأن العلمانية مرتبطة مباشرة بمبدأ المواطنة المتساوية وبهدم التراتبية الاجتماعية المتوارثة على أساس الدين والهوية. أما وثائق “تأسيس” و”المبادئ فوق الدستورية”، فتنص بوضوح على أن الدولة علمانية، وأن أي دستور دائم يجب أن يكرّس هذا المبدأ كشرط لوحدة البلاد. من هنا، يصبح الاتفاق الإطاري وثيقة متخلفة دستورياً لأنه يلتف على المسألة الجوهرية التي فجرت الحروب السودانية: علاقة الدين بالدولة.
٥/ العدالة: انتقالية أم تاريخية؟ يطرح الاتفاق الإطاري مفهوم العدالة الانتقالية، وهو مفهوم محدود غالباً ما يُستعمل لتسويات قصيرة المدى مع النخب، عبر محاكمات شكلية لا تمس جذور الأزمة. أما “تأسيس” فيتبنى مفهوم العدالة التاريخية، التي تتجاوز جرائم ما بعد 1989، لتشمل مواجهة البنية التاريخية للتمييز وتداعيات الرق والتهميش، وإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس جديدة. وهنا يظهر الفارق بين مشروع يجزّئ ويؤجل (الاتفاق الإطاري)، ومشروع يسعى إلى مواجهة الجذور بلا مواربة (تأسيس.) :
٦/ المسألة العسكرية وقوات الدعم السريع يتبنى الاتفاق الإطاري خطاب “إصلاح القطاع الأمني ودمج قوات الدعم السريع”، لكنه ينطلق من افتراض بقاء الجيش الحالي إطاراً جامعاً. وهو بذلك يكرّس هيمنة المؤسسة نفسها التي أنشأت المليشيات بما فيها الدعم السريع ثم عجزت عن السيطرة عليها، وهي المؤسسة المتورطة في الانقلابات والمجازر وجرائم الحرب والإبادة. في المقابل، تنطلق وثائق “تأسيس” من أن الجيش السوداني بصورته الحالية غير قابل للإصلاح لأنه يمثل عمق دولة المركز القديمة. والحل يكمن في تأسيس جيش جديد: قومي، متعدد الأعراق، علماني العقيدة، خاضع للدستور التأسيسي. وهذا فارق ثوري وقانوني يجعل الاتفاق الإطاري وثيقة تجاوزها الزمن.
٧/ البعد الثوري لا تُختزل وثائق “تأسيس” في كونها نصوصاً قانونية سياسية، بل هي أول مشروع ثوري تأسيسي في تاريخ السودان يسعى لإعادة صياغة الدولة على أساس عقد اجتماعي جديد. أما الاتفاق الإطاري، فلا يعدو كونه تسوية فوقية بين العسكر وبعض القوى المدنية التقليدية، صُمِّمت أساساً لاحتواء الثورة وإعادة إنتاج دولة الهيمنة.
ومن منظور الفلسفة السياسية، لا يمكن لأي مشروع تأسيسي حقيقي أن يقوم على مثل هذه الوثائق والرؤى الإصلاحية المحدودة، بل على قطع جذري مع الماضي كما تطرحه “تأسيس”
أخيرا: بناءً على وثائق تحالف تأسيس والمبادئ فوق الدستورية، يتضح أن العودة إلى الاتفاق الإطاري (5 ديسمبر 2022) أو الارتهان الكامل للمجتمع الدولي يمثلان معاً نكوصاً سياسياً ودستورياً وثورياً، للأسباب التالية:
دستورياً: الاتفاق الإطاري وثيقة انتقالية مؤقتة تعيد إنتاج الأزمة، بينما يقدم “تأسيس” دستوراً تأسيسياً شاملاً يقوم على مبادئ فوق دستورية غير قابلة للتعديل، مثل العلمانية، العدالة التاريخية، والحق في تقرير المصير
سياسياً: الاتفاق الإطاري هو نتاج تسوية بين العسكر وقوى فقدت شرعيتها الثورية والشعبية، في حين أن “تأسيس” يستمد شرعيته من تحالف ثوريشعبي جديد متجذر في قوى الهامش والمقاومة.
مؤسساتياً: الاتفاق يسعى إلى إصلاح شكلي داخل مؤسسات الدولة القديمة، بينما يطرح “تأسيس” مشروعاً جذرياً لتفكيك وإعادة بناء الدولة على أسس قومية جديدة.
فكرياً: الاتفاق يتجنب الحسم في المسائل الجوهرية العلمانية والعدالة التاريخية مكتفياً بعبارات فضفاضة، بينما يواجه “تأسيس” هذه القضايا مباشرة بوصفها شرطاً لوحدة السودان.
ثورياً: الاتفاق يعكس عقلية إصلاحية ماضوية صُممت لاحتواء الثورة، بينما “تأسيس” يمثل أول مشروع ثوري تأسيسي يعيد صياغة الدولة على عقد اجتماعي جديد.
استراتيجياً: التعويل على المجتمع الدولي بدلاً من الإرادة الشعبية لا ينتج سوى حلول سطحية هشّة كما أثبتت التجارب (البوسنة، هايتي…)، بينما يطرح “تأسيس” حلاً وطنياً جذرياً يعوّل على الشعب السوداني نفسه.
إذن، الاتفاق الإطاري لم يعد صالحاً لا كمرجع دستوري ولا كإطار سياسي، وقد تجاوزه “تأسيس” من حيث المضمون، الشرعية، والرؤية المستقبلية. وأي عودة إليه لا تمثل سوى انتحار سياسي وإهدار تاريخي لفرصة نادرة لبناء السودان الجديد على أسس ثورية ودستورية راسخة.
النضال مستمر والنصر اكيد
مداميك
المصدر: صحيفة الراكوبة