وائل طه
:مقدمة
الحروب لا تُدار فقط بالرصاص والمدافع، بل كذلك بالأفكار والشعارات. في المجتمعات التي تعيش أزمات وجودية مثل الحرب السودانية، يصبح الرأي العام أداة حاسمة بيد القوى المتصارعة، حيث يُقاد الناس أحيانًا إلى تبنّي مواقف جماعية تُعاكس التفكير الطبيعي الذي يقتضي حماية الإنسان وتقديم السلام على العنف.
: صناعة التضليل
منذ اندلاع الحرب، لجأت الأطراف المتحاربة إلى تضليل جماعي عبر الإعلام والوسائط الاجتماعية.
تُروَّج أخبار عن “انتصارات قريبة” رغم أن الوقائع الميدانية معقدة وطويلة الأمد.
تُضخم أخطاء الطرف المدني وتُضفى عليها صبغة الخيانة والعمالة.
يُستغل الخطاب العاطفي حول “الوطن والكرامة” لإسكات أي صوت عقلاني يدعو للحوار أو السلام.
بهذا الشكل، يتعرض المواطن العادي إلى وابل من الرسائل المتناقضة، لكنه يجد نفسه منساقًا مع “الرأي الجمعي” خوفًا من العزلة أو الاتهام.
: من التضليل إلى الاصطفاف
عملية التضليل لا تقف عند حدود نشر المعلومات المغلوطة، بل تتطور إلى اصطفاف قسري.
كل فرد يُطلب منه أن يعلن ولاءه لطرف ما، وأي حياد يُعتبر خيانة.
التفكير الفردي يُلغى لصالح “الوعي الجمعي” المُوجه :
هذا الاصطفاف لا يفتح مجالًا للنقد، بل يحوّل الحرب إلى قضية هوية وانتماء بدل أن تكون مسألة سياسية يمكن حلها.
: المجتمع بين الانتهاك والتعويض
جانب مهم في مسار الاصطفاف تمثّل في حالة المجتمع نفسه بعد الانتهاكات الواسعة التي مارسها قوات الدعم السريع في المدن والقرى السودانية.
المدنيون شعروا بأنهم عُرضة للانتهاك المباشر: نهب، قتل، تهجير، واعتداءات على الكرامة الإنسانية.
أمام هذه التجربة المريرة و بدل طرح السؤال الحقيقي عن غياب حمايه الدوله لهم، لجأ المجتمع إلى دعم الجيش كخيار تعويضي ، ليس عن قناعة مطلقة ببراءته، بل كمحاولة نفسية لاستعادة الشعور بالقوة والكرامة المفقودة.
هذا السلوك الجماعي كان بمثابة ردة فعل دفاعية لتعويض الإحساس بالعجز والمهانة.
: رهان الحركة الإسلامية
الحركة الإسلامية التي ما زالت فاعلة في مفاصل الدولة، راهنت منذ البداية على هذا التحول النفسي للمجتمع
كانت تدرك أن الانتهاكات ستدفع الناس غريزيًا للالتفاف حول الجيش، حتى لو لم يكونوا مقتنعين بمسار الحرب.
هذا الالتفاف وفّر لها الغطاء الشعبي والسياسي الذي احتاجته لتبرير استمرار الحرب كـ”معركة وطنية” وليست حرب سلطة.
وبهذا تضمن لاحقًا أن يُكافأ قادتها بـ”كراسي الحكم”، باعتبارهم من قادوا حربًا نالت شرعية شعبية من الألم نفسه.
: الحرب كواقع مفروض للعودة إلى الحكم
الحقيقة الأعمق أن الحرب لم تكن خيارًا عارضًا، بل واقعًا مفروضًا لضمان عودة الحركة الإسلامية إلى السلطة.
أي مسار ديمقراطي أو مدني كان سيُقصي الإسلاميين سياسيًا واقتصاديًا، بعد سقوط نظامهم وتكشف ملفات الفساد والمحسوبية.
لذلك لم يكن أمامهم سوى الدفع باتجاه الحرب، لأنها السبيل الوحيد لإعادة ترتيب الأوراق واستعادة النفوذ.
الحرب هنا لم تُخض دفاعًا عن الوطن، بل كأداة سياسية باردة لخلق ظرف استثنائي يمنحهم الشرعية التي فقدوها في زمن السلم.
: استغلال سلوك القطيع وعقدة ستوكهولم
سلوك القطيع: الحركة الإسلامية استثمرت في ميل المجتمع للانقياد وراء الأغلبية أو الصوت الأعلى، خصوصًا وقت الأزمات. الناس وجدت نفسها مدفوعة للالتفاف حول الجيش، ليس عبر قناعة عقلانية، بل لأن الأغلبية اتجهت هناك. الإسلاميون غذّوا هذا السلوك بالشعارات الدينية والوطنية، حتى أصبح الاصطفاف وكأنه واجب أخلاقي لا يحتمل النقاش.
عقدة ستوكهولم: على الرغم من أن جزءًا كبيرًا من معاناة السودانيين يعود لجذور فترة حكم الإسلاميين السابقة (القمع، الفساد، الحروب الداخلية)، إلا أن المجتمع تحت ضغط الانتهاكات الحالية وجد نفسه يتماهى مع الخطاب الذي أنتجه نفس الفاعلين. هذا يشبه حالة الضحية التي تتعاطف مع جلادها لأنها ترى فيه ملاذًا من عدو أسوأ. الحركة الإسلامية استغلت هذا الميل النفسي لتعيد تقديم نفسها كحامي الشعب، رغم أنها طرف أصيل في إنتاج الأزمة.
بهذا الشكل، تم استغلال آليتين نفسيّتين خطيرتين: الانقياد مع القطيع والتعاطف مع الجلاد، لتأمين شرعية حربٍ كان هدفها الأول إعادة إنتاج سلطة الإسلاميين ومصالحهم الاقتصادية والسياسية، وهو ما كان مستحيلًا في أي وضع ديمقراطي طبيعي.
: أمثلة من الواقع السوداني
1. شعار الحسم العسكري:
الخطاب الجمعي ردد أن “الحرب ستُحسم قريبًا”، بينما التفكير الطبيعي يقول إن الحروب الأهلية المعاصرة نادرًا ما تُحسم عسكريًا، خصوصًا وسط المدن.
2. تبرير معاناة المدنيين:
صُورت مآسي النزوح والقتل على أنها “تضحيات واجبة”، بينما المنطق يقتضي أن حماية المدنيين هي الأولوية.
3. إقصاء دعاة السلام:
الأصوات التي طالبت بوقف إطلاق النار وفتح مسارات إنسانية وُصفت بأنها “ضعيفة” أو “متخاذلة”، بدلاً من أن يُنظر إليها كصوت العقل.
: الخلاصة
مسار الرحله من التضليل إلى الاصطفاف كشف هشاشة البنية الفكرية والسياسية للمجتمع السوداني:
غياب الإعلام الحر جعل المعلومات تُضخ من طرفي النزاع فقط.
ضعف المجتمع المدني فتح المجال أمام الخطاب التعبوي العاطفي ليتفوق على المنطق.
ثقافة الاستقطاب التاريخية عززت الاصطفاف وألغت مساحة النقاش العقلاني.
الحرب نفسها أداة لإعادة إنتاج السلطة: استُخدم ألم المجتمع والانتهاك النفسي لتأمين شرعية شعبية تُعيد الإسلاميين لمقاعد الحكم، وهو أمر كان مستحيلًا في أي مسار ديمقراطي سليم
اخيرا وليس آخرا:
الحرب السودانية ليست مجرد مأساة مادية، بل أيضًا مأساة فكرية ونفسية. التضليل الإعلامي والسياسي دفع المجتمع إلى اصطفاف يكرّس الحرب ويعطل مسار السلام. في قلب هذا المشهد، لعبت الحركة الإسلامية دورًا محوريًا في استثمار ألم الشعب وسلوكياته النفسية لإعادة إنتاج نفوذها السياسي والاقتصادي، مستغلة الانقياد مع القطيع وتعاطف الضحايا مع جلادهم، وتحويل الحرب إلى واقع مفروض لا مفر منه.
والسلام ختام….
المصدر: صحيفة التغيير