أصدرت دار سؤال للنشر في بيروت الترجمة العربية لكتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو “الأخلاق في عصر التفاهة”، وهو عمل يتقاطع فيه الفلسفي بالسياسي والاجتماعي، ويقترح قراءة نقدية حادّة للممارسات والقيم التي تحكم الخطابات الحديثة، سواء اليمينية أو اليسارية، في سياق عالمي تسود فيه لغة الشعارات وتُطوّق فيه الأخلاق بوصفها أداة للاستهلاك أو التوظيف لا كمبدأ موجّه للسلوك العام.
جاءت الترجمة بصيغة عربية مزدوجة، أنجزها الباحث المغربي المهدي مستقيم والباحث اللبناني باسل الزين، في صيغة مشتركة استندت إلى مقاربة تأويلية دقيقة للنص الأصلي، مع الحرص على الحفاظ على الروح الجدلية التي تطبع فكر دونو، دون الإخلال بخصوصيات اللغة الفلسفية الفرنسية ولا بالسياقات النقدية التي يستحضرها المؤلف في تناوله لمواضيع شديدة التعقيد والتشعّب.
وفي تقديمهما للترجمة، آثر المترجمان تجنّب تلخيص فصول الكتاب أو إعادة بناء معجمه المفهومي، وفضّلا بدل ذلك الوقوف عند ثلاث لحظات مركزية تعكس بنية النص واتجاهاته: أولاها “التصنيف لا التوليف”، أي رفض محاولة التوفيق بين الأطروحات المتعارضة والاكتفاء بوصفها وكشف تناقضاتها الداخلية؛ وثانيها “قصديّة المنظور الفلسفي”، حيث لا تُطرح الأخلاق كقواعد أو نصوص، بل كمحكّ لمساءلة الخطابات؛ وثالثها العلاقة المعقدة بين “الإبداع والتقميش”، إذ يمزج دونو بين السرد التحليلي الحر وبين الاستشهاد الواسع من تجارب ومعطيات واقعية.
يضع الكتاب نصب عينيه مهمة محدّدة: فضح الخطابين اليميني واليساري على السواء، لا عبر المفاضلة بينهما، بل من خلال تتبع التناقضات البنيوية بين ما يزعمان الدفاع عنه وما يُمارسانه فعليا في الحقل العام. وبهذا المعنى، لا ينطلق دونو من تصنيف تقليدي للخير والشر أو الصالح والطالح، بل من رصدٍ دقيق لانزلاق الخطابات السياسية إلى ممارسات لاأخلاقية تتمظهر غالبا في صورة قانونية أو تقدّمية أو واقعية.
لا يسائل الكتاب ماهية الأخلاق في تعريفها المدرسي، بل يبحث في التوتر القائم بين الخطاب والممارسة، بين ما يُقال باسم المبادئ وبين ما يُرتكب باسمها. ومن هنا كانت العبارة المفصلية التي تُلخّص موقف المؤلف: “لا تهمني نوايا الخطابات بل نتائجها العملية”، في إشارة واضحة إلى أن التبريرات الأخلاقية قد تكون مجرد غطاء لسياسات عنيفة أو فاسدة أو إقصائية.
يتناول الكتاب خمس ثيمات فرعية تتوزع بين قضايا التمييز العنصري، وتحول الأنظمة الاستثنائية إلى أوضاع دائمة، وأخلاق الأعمال، ومفهوم التنمية المستدامة، ثم قضية الفولكلور بوصفه موروثًا بلا شعب. وتُجمع هذه الموضوعات، رغم تباعدها الظاهري، على رصد التحولات القيمية التي عرفها العالم المعاصر، وعلى تحليل كيفيات إنتاج التفاهة كممارسة مؤسّسة تُقنّن وتُروّج عبر أدوات السلطة.
من الأمثلة التي يعرضها دونو في تحليله لقضية التمييز، ما حدث في جامعات أمريكية حين جرى طرد أستاذة جامعية لمجرد أنها ذكرت عنوان كتاب يتناول العنصرية في سياق أكاديمي، في خطوة تُجسّد كيف أصبحت مقاومة العنصرية تُنتج أشكالًا جديدة من الإقصاء باسم الحذر السياسي، بما يُفقد الخطاب الحقوقي توازنه. كما يتناول دونو بأسلوب تفكيكي حاد السياسات الصحية التي طُبقت خلال جائحة كوفيد19، والتي يراها قد تجاوزت أهدافها الطبية لتتحول إلى أدوات ضبط اجتماعي، مؤطرة بمقولات الأمن القومي والمصلحة العليا، ما مهّد لنظام استثنائي دائم يتغلغل في تفاصيل الحياة الخاصة والعامة.
وفي السياق ذاته، يخصص المؤلف مساحة واسعة لمساءلة “أخلاق الأعمال” التي تسوّغ ممارسات قائمة على استغلال الموارد، وتدمير البيئة، وتكريس التفاوت، تحت شعارات المسؤولية الاجتماعية والشفافية والتنمية. ويرى أن مفهوم “التنمية المستدامة” ذاته لم يعد سوى قناع تجميلي لرأسمالية شرهة تستهلك الموارد وتنتج خطابا إصلاحيا لا ينعكس إلا قليلًا على الواقع.
أما عن الفولكلور، فيفككه دونو باعتباره موروثا هلاميًا، يُنسب إلى مجتمعات لا يمكن تحديدها بدقة، ويُستخدم لأغراض تجارية أو سياسية، دون أي صلة حقيقية بتجربة شعبية حية. وهنا، تتقاطع ملاحظاته مع نقده العام لمسار الخطابات المعاصرة التي تُعيد إنتاج المعاني على نحو فارغ من دلالاته الأخلاقية والإنسانية.
لم يشأ دونو، رغم كثافة النقد، أن يقدّم بدائل منهجية أو مشاريع قيمية شاملة، بل اختار أن يكتفي بوصف الاختلالات وتحليل أنماط الزيف التي تعتري النظامين اليميني واليساري. وهذا الخيار في حدّ ذاته يعبّر عن موقف فلسفي مضمر يقوم على رفض تقديم أجوبة جاهزة، والدعوة بدل ذلك إلى إعادة بناء العلاقة بين القيم والفعل من الأساس.
وقد تعرض دونو لانتقادات داخل الأوساط الأكاديمية بسبب غياب الإحالات المنهجية الدقيقة أحيانا، لكنه دافع عن نفسه معتبرًا أن كتاباته تنتمي إلى ما يسميه “الفكر الإبداعي التحليلي”، الذي لا يتقيّد بقواعد المقال الأكاديمي، بل يتحرك في فضاء فكري أوسع يسمح بتعدد الأساليب وتنوّع المسارات التأويلية.
تأتي هذه الترجمة العربية في لحظة فارقة، في ظل الانهيار الأخلاقي الذي تشهده المنظومة الدولية، وتنامي الخطابات الشعبوية، واستفحال الهيمنة الاقتصادية. ولعلّ أبرز ما يميز هذا الإصدار، أنه لا يكتفي بتوصيف التفاهة أو نقدها من خارجها، بل يغوص في داخلها، ويكشف عن آليات إنتاجها وإعادة إنتاجها في الفضاء العمومي. كما أن ترجمة هذا النص إلى العربية تسهم في توسيع دائرة النقاش حول القيم في العالم العربي، في سياق يتطلب خطابا نقديا عقلانيا لا يكتفي بالتحسر، بل يفتح الباب أمام مساءلة جذرية للسائد.
ويمثل صدور الكتاب عن دار سؤال امتدادًا لخط تحريري واضح اختار منذ سنوات الاشتغال على نصوص فلسفية وفكرية ذات طابع إشكالي وجدالي، تُعيد طرح أسئلة الحداثة من منظور عربي معاصر، وتُسهم في بناء رأي عام معرفي ناقد، في مواجهة رطانة التفاهة والخطابة السطحية. وإذ ينضاف هذا العمل إلى سلسلة إصداراتها، فإنه يؤكد حضور الدار في المشهد الثقافي العربي كمؤسسة نشر ذات وعي نقدي واضح ومشروع فكري متماسك.
المصدر: هسبريس