عبدالحافظ سعد الطيب

المقدمة:

منذ الانقلاب العسكري في يونيو 1989، اتضح أن تنظيم الحركة الإسلامية في السودان لم يسعَ إلى حكم رشيد أو إصلاح ديني أو نهضة مجتمعية، بل كان مشروعًا منظمًا للسيطرة عبر أدوات الدولة، باستراتيجية اعتمدت “انتخاب العنف” كأساس لتثبيت سلطته، وليس كأداة ظرفية.
إننا لا نواجه “نظامًا أخطأ” أو “دولة فاشلة”، بل نواجه تنظيمًا عقائديًا عنيفًا، قام بتفكيك الدولة وإعادة تركيبها على مقاسه، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وفكريًا.

⚖ الإشكال: لماذا الإدانة القانونية وحدها لا تكفي؟

لأن التنظيم اختطف الدولة وأعاد هندستها:

استولى على أدوات العنف (الجيش، الأمن، القضاء).

شرّع قوانين لحماية سلطته باسم الشريعة.

زرع شبكاته داخل البيروقراطية والمجتمع والاقتصاد.

وهكذا أصبح عنف التنظيم مموهًا بـ”شرعية الدولة”، ومغلفًا بفقه الطاعة، ومحصّنًا بتأويلات دينية مختطفة. لهذا، لا تكفي المحاكمات القانونية التي تُدار بنفس البنية القانونية التي أنتجها التنظيم، بل نحن بحاجة إلى محاكمة فكرية وسياسية وتاريخية كاملة.

أولًا: محاكمة فكرية

تقوم على تفكيك البنية الأيديولوجية التي قام عليها التنظيم:

مفهوم التمكين الذي يعني إقصاء الآخر وتقديس الجماعة.

تحويل الدين إلى أداة أمنية لضبط المجتمع، لا تهذيب الضمير.

اختزال الشريعة في العقوبات وتهميش مقاصدها الأخلاقية.

ترويج فقه الاستثناء والطوارئ لتبرير القتل والقمع والنهب.

هذه ليست اجتهادات دينية بل أيديولوجيا عنف مؤسسية تم أسلمتها عمدًا.

ثانيًا: محاكمة سياسية من واقع التجربة

التجربة السياسية للتنظيم تكشف عن:

اختطاف جهاز الدولة بالكامل، وتحويله إلى أداة قمع.

تفكيك الخدمة المدنية واستبدال الكفاءة بالولاء.

استخدام الاقتصاد كوسيلة تمويل حزبي (اقتصاد الظل).

صناعة الأزمات (الحرب، الفقر، النزوح) لتبرير استمرار القمع.

هذا ليس فسادًا إداريًا بل نهج سلطوي منظم يضاهي أسوأ أنظمة الفصل العنصري، مع تسويغ أخلاقي باسم الدين.

ثالثًا: محاكمة من داخل الفكر الإسلامي المعقلن

المشروع الإسلاموي السوداني كان خيانة كبرى للفكر الإسلامي، حيث:

خان مبدأ العدل باسم التمكين.

سحق الكرامة الإنسانية باسم الطاعة.

هدم قيمة الحرية باسم درء الفتنة.

تجاهل مقاصد الشريعة الكبرى لصالح شهوة السلطة.

المفكرون المجددون ( محمد اركون د محمد شحرور مهدي عامل نفد الفكر الطائفي حسين مروة الفلسفة العربية الاسلامية خليل عبدالكريم و الإمام محمد عبده، الطهطاوي، مالك بن نبي، ومحمود محمد طه) قدموا بدائل فكرية عظيمة، تقوم على الحرية قبل الشريعة، والعقل قبل السمع والطاعة. ومن هنا يجب استعادة هذا الفكر لمحاكمة التنظيم لا بالخطب بل بمعايير إسلامية متقدمة وعقلانية.

من المحاسبة إلى الاجتثاث الفكري

ما لم تتم محاكمة التنظيم على هذه الأسس الثلاثة:

الفكرية: لفضح أيديولوجيته.

السياسية: لكشف جرائمه كبنية سلطة لا أخطاء أفراد.

الإسلامية: لتجريده من شرعية دينية زائفة.

فلن نحقق عدالة تاريخية حقيقية، ولن نؤسس لمجتمع جديد مقاوم لأي نسخة قادمة من هذا الأبرتهايد الإسلاموي.

إن سقوط الحركة الإسلامية ليس سقوط حزب، بل هو بداية تحرير العقل السوداني من قيد طويل الأمد، وإعادة تعريف الدولة بوصفها عقدًا اجتماعيًا، لا غنيمة حزبية.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.