من أين تبدأ الحكاية حين لا تكون هناك بداية؟ هل تبدأ من لحظة الانهيار أم من صمتٍ يسبق الصراخ؟ وهل يمكن للحب أن يموت دون أن يُدفن؟ وهل الأمومة نعمة أم لعنة حين تتسلل إلى الجسد ككائنٍ غريب؟ في فيلم Die, My Love للمخرجة Lynne Ramsay لا تُطرح هذه الأسئلة لتُجاب، بل لتُعاش، لتُحفر في النفس كما يُحفر الجدار في مشهدٍ عبثي من الفيلم. تقول غراس في إحدى اللحظات التي تنكسر فيها الذات: “أنا لا أريد أن أكون هنا، لكنني لا أعرف أين أذهب”، وهي بذلك ترسم صورة التيه الذي يلفّ هذا العمل، وتفتح الباب أمام رحلة لا تشبه أي سرد تقليدي. والسؤال كيف يتغير مزاج الفيلم على أكثر من مستوى؟.
علاقة واجهات ومرايا
يحمل عنوان فيلم Die, My Love ( ماي 2025/ المدة 118 دقيقة) ترجمة عربية مزدوجة المعنى: “متِّ، يا حبيبي” أو “متِّ يا من أحب”، ويكشف هذا العنوان عن توتر شعوري عميق، يجمع بين الحب والموت، بين الوله والرغبة في التخلص من الآخر أو من الذات التي تعيش ذلك الحب بصيغة خانقة. ويفتح العنوان بابًا على مفارقة وجودية، حيث يتحوّل الحب إلى عبء، ويتحوّل التعلّق إلى اختناق، ويصبح الموت رغبة في التحرّر من علاقة لا تُحتمل.
ولا يقدّم الفيلم نفسه كصرخة مكتومة في وجه كل ما يُسمّى استقراراً، بحيث يعزز الانتماء إلى سينما الحدس، فالقصة لا تُروى بل تُستشعر، حيث الصورة لا تُفسّر بل تُغرقك في معناها. وقد عرفت المخرجة البريطانية لين رامسي بقدرتها على تحويل الألم إلى لغة بصرية، حيث تقتحم عالم شخصية “غراس”، الأم التي لا تجد في الأمومة خلاصاً، ومرآة لتشظيها الداخلي. ولا نرى في الفيلم محاولة لفهم الشخصية عبر أدوات الطب النفسي أو التحليل السلوكي، حيث نعيش معها في قلب العاصفة، نعيش معها التمزق، ونحاول أن نلتقط أنفاسنا وسط ضجيج لا يهدأ.
ويتجاوز الفيلم التصنيفات السينمائية المعتادة، فهو دراما بهجاء داخلي، كوميديا سوداء، هلوسة بصرية، وموسيقى تنهش من الداخل. في مشهدٍ تتداخل فيه الأصوات نسمع صوت الكلب النابح، صوت الطفل الباكي، صوت الريح، وصوت Grace وهي تهمس لنفسها: “كل شيء ينهار، الحب، الجنس، حتى الكتابة”، وهي لحظة مفصلية تعبر عن جوهر الفيلم، عن تلك اللحظة التي لا يعود فيها شيء كما كان، ولا يبقى شيء يمكن التمسك به.
ويطرح الفيلم إشكالية لا تُحل، بل تُعرض كجروح مفتوحة عن العلاقة المذبذبة بين غراس وزوجها جاكسون، باعتبارها علاقة حب وعلاقة غياب، وعلاقة واجهات. هو موجود جسداً لكنه غائب روحاً، يراقب دون أن يرى، يسمع دون أن يصغي. وتتحول الأم، الجيران، حتى الطبيعة المحيطة، إلى مرايا تعكس عزلة الأم غراس، إلى أصوات تزيد من ضياعها، حيث تقول إحدى نساء مونتانا في مشهدٍ جانبي: “يفقد الجميع عقلهم قليلاً في السنة الأولى”. تبدو هذه عبارة كأنها حكمة شعبية، لكنها في سياق الفيلم تتحول إلى لعنة، إلى اعتراف جماعي بأن لا أحد ينجو.
لحظات الصدى والانهيار والذوبان
لا يتبع السرد الفيلمي خطاً زمنياً، بل يتشظى، يتكسر، يتحول إلى فلاشات، إلى صور، إلى أصوات. ولا يُقاس الزمن بالدقائق، بل بالانهيارات. ولا يعود الفلاش باك إلى الماضي، فهو يُعيد تشكيل الحاضر. ولا يصاحب الصوت الصورة، بل يقودها، يسبقها، يعلو فوقها. وتتحول الموسيقى، من Joy Division إلى أغاني الريف الأميركي، إلى جزء من النسيج النفسي، إلى صدى لما لا يُقال. ونسمع في لحظة انهيار صوتاً يقول: “غراس تفقد عقلها تماماً”، وهو اقتباس نقدي، لكنه في الفيلم يبدو كأنه جزء من مونولوغ داخلي، كأنه صوتٌ من داخل رأسها.
وتبدأ قصة الفيلم بحب، لكنها لا تنتهي به، حيث تنتقل غراس من نيويورك إلى ريف مونتانا، بحثاً عن هدوءٍ لا يأتي. وتحاول الكتابة لكنها تفشل، وتنجب طفلاً، لكنه لا يمنحها المعنى. وتبدأ في الانهيار، في التلاشي، في فقدان القدرة على التمييز بين الواقع والخيال؛ وترى رجلاً على دراجة نارية، تسمع أصواتاً، تشعل الغابة، أو ربما تتخيل ذلك. ويتحول كل شيء إلى رماد، إلى فراغ، إلى صمتٍ يصرخ. كما يبدو عنوان الفيلم نفسه كأنه أمرٌ لا يُنفذ، “متِّ يا حبيبي”، لكنه يحمل في طياته رغبة في النهاية، في الخلاص، في الولادة من جديد.
ويتأسس الفيلم على فكرة أن لا شيء يُشفى، وأن الألم لا يُعالج بل يُعاد تشكيله. وينتمي الفيلم إلى سرديات ما بعد الحداثة، حيث لا توجد حلول، فقط توجد تحولات. وتتحول الصورة الصوتية إلى فكرة، إلى سؤال، إلى جرح. واستخدام النسبة يجعل العالم يبدو ضيقاً، ويجعل الشخصية تختنق، ويجعل البيت يتحول إلى سجن. وتعكس الألوان، من الأزرق البلوري إلى الرمادي، المزاج والانطفاء، والرغبة في الهروب.
كما تتأسس الهوية البصرية للفيلم على اللغة. ويمنح التصوير في 35 مم المشاهد شعوراً بالحنين، لكنه أيضاً يضيف طبقة من الغرابة. وتبدو المشاهد، من الجسد العاري إلى السكّين، فرصة للتأمل؛ وهي مشاهد عبثية، لكنها تحمل معنى، أو ربما لا تحمل شيئاً سوى الصمت، فكل لقطة، كل زاوية، كل حركة كاميرا، تُصمم لتجعلنا نشعر، لا لنفهم.
وتنبع جماليات السرد الفيلمي من الداخل، من الذات، من العقل المضطرب حيث لا توجد حبكة تقليدية، هناك تواجد فقط لرحلة داخلية. ويتحول الصوت، كما في الطنين أو في موسيقى “In Spite of Ourselves”، إلى بطلٍ سردي، إلى مرآة للروح. ويتبخر الزمن، ويتداخل الماضي والحاضر،
وتصبح الهوامش مركزاً؛ فحين تقول غراس: “أنا لا أريد أن أكون هنا”، لا نسمعها فقط، بل نشعر بها، نعيشها. وحين تقول المخرجة رامسي: “كل شيء ينهار بعد الولادة”، لا نراها كمخرجة، فهي مجرد شاهدة، ومشاركة في الألم. وحين يُقال: “غراس تفقد عقلها”، لا نراه كتحليل، وإنما كصرخة، كحقيقة وشقوق في النفس.
ويمكن اعتبار الفيلم تجربة معاشة، هو رحلة، هو انهيار بطيء، وهو فيلم عن الأم التي لا تجد في الأمومة خلاصاً، عن المرأة التي لا تجد في الحب ملاذاً، عن الإنسان الذي لا يجد في الإبداع نجاة. وهو فيلم عن الجنس الذي يتحطم، عن الكتابة التي تتوقف، عن العلاقات التي تذوب؛ وهو فيلم عن الصمت، عن الصوت، عن الصورة، وعن الذات.
ويمكن تلخيص الفيلم، بمحاولة الغوص فيه، حيث نترك أنفسنا تنجرف مع شخصية غراس، أن نسمع صوتها، أن نرى عينيها، أن نشعر بانكسارها. ويمكن فقط أن نقول: “متِّ يا حبيبي”، وننتظر أن يولد شيء جديد من الرماد.
في ثنايا تشكيل الذات
تجسّد غراس، كما تؤديها جنيفر لورانس، بطلة لا تنتمي إلى القوالب البطولية المعتادة حيث ينفجر من داخلها كيانٌ يتصارع مع الأمومة قبل أن يصطدم بالعالم؛ كما أنها تخرج إلى الأعشاب القصيرة، وتزحف كمن يبحث عن رغبة غائبة، وتتمسّك بسكين لا يُستخدم، ويتحوّل إلى مرآة تتكسّر على جسدها، كأنها تجرّب أن ترى نفسها من جديد، وتعيد تشكيل ما تبقّى من ذاتها.
وتكشف غراس عبر تفاصيل حياتها طبقات اجتماعية متراكبة. ويشير المنزل الريفي إلى انقطاع عن شبكة دعم، يعكس الزوج الغائب ديناميكية تفكك داخلي، ويضفي صوت الكلاب النابحة والذباب الطنّان دلالة على صمت اجتماعي خانق، في مجتمع يُفترض فيه أن تُحتضن الأم الحديثة، ولكنها تُترك لتفلت من بين يديها الحياة… وتظهر في لحظات التمزّق أن الانهيار يعلن فتوة ضد عادات تؤطر النساء في أدوار محددة، وتباشر أعمالها بشغفٍ أقرب إلى بوحٍ هائج، كما تنطلق من عربة مسروقة من واقع لا يرحم، تلعب، تثير، تنهار، وتخلق من الجنون حدودًا جديدة للوجود، وترفض أن تُختصر في دور، وتُحاصر في وظيفة بيولوجية.
وتتسرّب الأبعاد السياسية حين تتحوّل الأمومة إلى فعل مقاومة، حينما تدفع غراس إلى مواجهة أطر السلطة التقليدية، ويفتح سلوكها الجنسي بعد الولادة بابًا لإعادة قراءة الجسد الأنثوي كميدان صراع على الحرية، يخترق قوالب “الأم المثالية”، ويكشف انخفاض شهوة الزوج، ويحتجّ ساخرًا على جماليات التنازل الزوجي، ليفضح هشاشة التفاهمات التي تُبنى على الصمت.
وتتحوّل الهوّة الاقتصادية إلى سطح للبؤس النفسي، يغيب الرجل عن البيت، وتتراكم العمالة المؤقتة، ويتواصل الدفع لحمل مساحات المنزل بالرغبة والكتابة التي لا تأتي، ويتماهى الضغط النفسي داخل غياب الدعم المادي والمعنوي، ويتكثّف الشعور بالعجز، ويتضخّم إحساسها بأن العالم لا يمنح فرصة للنجاة. وتتنفّس Grace عبر الهواجس، وتهرب في حلمٍ من وعيها، ويغدو الرابط بينها وبين راكب الدراجة النارية، كما يؤديه LaKeith Stanfield، رمزية لرغبة في خلاص لا يمر عبر الزوج، ويتجاوز الضوابط التي كبّلتها. ويتساءل المشاهد: هل وجوده حقيقة، أم زفرة من ذاتٍ تحاول استعادة رغبتها المسروقة؟ يتجسّد كفكرة للحرية، ويُستدعى حين ينهار الواقع. وتتحوّل هذه الرؤية إلى رمزية رغمية، وتمثّل الإعاقة الزوجية القوى التي تقمع التحول الجنسي الأنثوي بعد الولادة، ويتجسّد راكب الدراجة كفكرة الحرية التي تندفع من مسافة، وتُظهر استحالة استلامها إلا عبر الهلوسة أو الدفاع العنيف، فيُعاد تشكيل الرغبة كأداة مقاومة، لا كوظيفة بيولوجية.
وتُظهر غراس أن الألم يحرّك وعيًا جديدًا، وتوازنًا بين تدمير الذات ولحظة التحرّر حين تكتشف أن منطق “الهدوء الاجتماعي” خدعة، ويرفض المسرح الاجتماعي الفارغ، ويفضح التواطؤ الجماعي في تهميش الألم الأنثوي، ويعلن أن الصمت لا يُداوي، يُعمّق الجرح فقط… وتتكثّف القيمة النفسية في مشهدٍ تتسرّب فيه غريزتها إلى المتعة الكوميدية السوداء، وتضحك بينما تنهار، وتُخرج الغضب كموسيقى خلفية، تهدّده بالتجميد أو التمدّد بحسب انعكاس العقل المضطرب، وتُعيد تشكيل الانهيار كفعل إبداعي، لا كعلامة ضعف.
وتنمو الأفكار النقدية في تناقض واضح، حيث يُعرض الألم كحالة بشرية، يُتوسّل الاعتراف به بلا إدانة ولا تشخيص. وترفض المخرجة الرواية المحافظة عن الأمومة، وتُقدّمها كمساحة عبث عميق، وتتجاوز الكلام التافه والنص الكلاسيكي، لتفتح بابًا للبوح، وتُعيد تشكيل الأم ككائنٍ يتجاوز الوظيفة، ويتجاوز التضحية، ويتجاوز الصمت.
وينبثق من غراس إحساسٌ جديد بالتحرّر، تُسقط الأقنعة، وتُحرّك الذات خارج بيتها الذي كان ملاذًا مخيفًا، وتخرج بجسد حقيقي، يتلوى، ينزف، يضحك، يغضب، يتغيّر، وتتحوّل إلى مشهدٍ درامي لا يقبل التسوية مع المعيار الاجتماعي، وتُعيد تعريف البطولة كقدرة على الانهيار دون فقدان المعنى.
وتتجاوز غراس كل محاولة لتأطيرها، تُعيد تشكيل اللغة، تُعيد تشكيل الصورة، تُعيد تشكيل الصوت، تُعلن أن البطولة لا تُقاس بالانتصار، تُقاس بالقدرة على البوح، على الانهيار، على إعادة تشكيل الذات من رماد التجربة.
يتحوّل الفيلم إلى تجربة سينمائية تُعاش، تُعيد تشكيل العلاقة بين المشاهد والشاشة، تُعلن أن الألم لا يُداوى، يُعاد تشكيله. وتُعيد غراس تعريف الأمومة، وتُعيد تعريف الرغبة، كما تُعيد تعريف البطولة. حين تتكثّف العتمة وتُصبح الصرخة همسًا تقول غراس بصوتٍ متكسّر: “أنا لا أريد أن أكون هنا، لكنني لا أعرف أين أذهب”، وهكذا لا تنتهي الحكاية، لتبدأ من جديد، في مكانٍ لا يُسمّى، في جسدٍ يُعاد تشكيله، في روحٍ تبحث عن الضوء وسط رمادها.
المصدر: هسبريس