إبراهيم برسي

لم يعد الحديث عن تجنيد الأطفال في السودان مجرد اتهام متبادل بين الأطراف المتحاربة؛ فهذه المرة خرج الاعتراف من قلب حكومة الأمر الواقع نفسها. حين يقرر وزير التربية والتعليم إعفاء “الطلاب المشاركين في المعارك” من الرسوم الدراسية، فإن ذلك يعني أن المدرسة تحولت رسميًا إلى بوابة نحو جبهات القتال، وأن الطفولة أُدخلت قسرًا في حسابات الحرب.

ليست هذه أول مرة يستثمر فيها النظام العسكريالإسلامي في دماء الصغار؛ فمنذ بدايات مليشيا “البراء بن مالك” الإرهابية وتجنيد أطفال “دار المايقوما” من مجهولي الأبوين بعد عملية غسل الدماغ التي تعرضوا لها بإشراف مباشر من نافع علي نافع وابنه، مرورًا بتشكيلات مليشيا “درع السودان” و”المقاومة الشعبية”، ظل تجنيد الأطفال جزءًا من ثقافة الاستنفار العقائدي التي تتعامل مع القُصّر كأدوات رخيصة في معارك السلطة. وهذه جريمة أخلاقية منصوص عليها بوضوح في البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة، وفي نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي يجرّم تجنيد أو استخدام الأطفال دون الخامسة عشرة في الأعمال العدائية. كما أن الميثاق الإفريقي لحقوق ورفاه الطفل يحظر هذا الفعل صراحة، بينما يحدد قانون القوات المسلحة السوداني لسنة 2007 سن التجنيد الأدنى بثماني عشرة سنة ويقرّ عقوبات على من يخالف ذلك. أي أن ما يجري لا ينتهك القانون الدولي فحسب، بل هو مخالفة صريحة للقانون السوداني نفسه. اعتراف الوزير الأخير يضع الجيش وحلفاءه أمام حقيقة لا يمكن إنكارها: أنهم ارتكبوا جريمة حرب مكتملة الأركان، جريمة لا تقل فداحة عن جرائم الدعم السريع.

والدعم السريع بدوره لم يكن بريئًا؛ تقارير أممية كثيرة وثّقت تورطه في خطف الأطفال من معسكرات النزوح واللجوء واستدراجهم بالمال والطعام والهواتف. ظهرت صور عديدة لصبية يحملون أسلحة تفوق أحجامهم، ودُفعوا إلى خطوط النار في دارفور وكردفان وغيرها. إلا أن ما يميّز الجيش وحلفاءه أنهم لا يكتفون بالتجنيد غير الشرعي، بل يسعون لإضفاء شرعية على الجريمة عبر غطاء رسمي وقرارات وزارية، وكأنهم يدمجون الحرب في البنية التعليمية ذاتها. هذه الازدواجية تفضح عمق التواطؤ بين الحركة الإسلامية والمؤسسة العسكرية: جريمة في الميدان، وتشريع لها في مؤسسات الدولة.

لقد حولت الحرب أطفال السودان إلى جيل مُشوّه، بين من خُطف قسرًا ومن ذهب “طوعًا” تحت ضغط ثقافة “النفرة” والفروسية الزائفة والتحشيد العرقي. لكن التشويه لم يقف عند حدود الجسد أو ضياع فرص التعليم؛ بل تمدد إلى داخل النفس. الأطفال الذين أُجبروا على حمل السلاح يعانون صدمات نفسية عميقة، من الكوابيس المستمرة إلى فقدان الثقة بالآخرين. كثيرون يعودون من الجبهات عاجزين عن استعادة براءتهم أو الاندماج في حياة طبيعية. إنهم ضحايا مزدوجون: خسروا طفولتهم، وخسروا القدرة على بناء حاضر سليم ومستقبل متوازن، والأنكى من ذلك أن من لم يمت تطبّع مع القتل.

وإذا كان ذلك يوضح حجم المأساة الإنسانية، فإن المأساة السياسية أشد وقعًا. فمسؤولية الجيش والحركة الإسلامية أعظم، لأنهم يملكون سلطة حكومة الأمر الواقع، ويستغلون المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية لتبرير مشاركة القُصّر في الموت. إنهم وأبواقهم الإعلامية وأغاني “قوناتهم” الحماسية يزرعون في وعي الأجيال الصغيرة أن السلاح مقدَّم على الكتاب، وأن الشهادة في الحرب أهم من الشهادة المدرسية. إنها سياسة مُمنهجة تستهدف تحويل التعليم إلى خط إنتاج للمقاتلين بدل أن يكون فضاءً للمعرفة.

هذه ليست مجرد انتهاكات معزولة، وإنما إعادة إنتاج متعمدة لما ارتُكب في الحرب الأهلية الأولى، وما فعله الإسلاميون حين دفعوا آلاف الطلاب إلى محرقة الجنوب باسم “ساحات الفداء”. واليوم يُعاد المشهد ذاته بوجوه مختلفة: أطفال يقاتلون بدل أن يتعلموا، أمهات يبحثن عن أبنائهن بين الخرائب، وقادة عسكريون يواصلون توزيع صكوك الشرعية على موت الصغار.

ولمن يشكك في أن مثل هذه الجرائم يمكن أن تُحاسَب، فإن التاريخ القريب يقدم شواهد صارمة: المحكمة الجنائية الدولية أدانت في العام 2012 الزعيم الكونغولي توماس لوبانغا وحكمت عليه بالسجن 14 عامًا بسبب تجنيد أطفال في صفوف قواته. وفي سيراليون، قضت المحكمة الخاصة بسجن قادة الفصائل المسلحة (AFRC وRUF) بعد إدانتهم بتجنيد الأطفال، واعتبرت ذلك من أبشع الجرائم الدولية. هذه السوابق ليست بعيدة، وهي تعني أن من يزجّ بأطفال السودان اليوم في ساحات القتال يمكن أن يواجه ذات المصير.

لا يملك أي طرف في هذه الحرب براءة؛ لكن الجيش وحلفاءه الذين يُفترض أن يكونوا “دولة” كما يزعمون يرتكبون الجريمة مرتين: مرة حين يزجّون الأطفال في الموت، ومرة حين يُعطون لهذا الفعل غطاءً قانونيًا وتربويًا. إنها فداحة مضاعفة تكشف أن حرب السودان ليست فقط معركة على الأرض، بل معركة ضد الذاكرة والضمير، وضد حق الطفولة في أن تعيش بعيدًا عن صفوف الموت الأمامية، وضد إنسانية بلد يتآمر عليه حُكامه بوعي كامل بمقتضيات القانون والشرع والأخلاق.

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.