تعليق على ما ورد في صحيفتي التنوير والراكوبة بعنوان: تقرير استقصائي: الأستاذ محمود محمد طه المفكر، المنهج، والإرث
بقلم الدكتور عبدالله الفكي البشير
السبت 16 أغسطس 2025
[email protected]
مدخل
يحمد لأسرة صحيفة التنوير مبادرتها بفكرة نشر تقرير استقصائي عن المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه. ولعل نشر هذا التقرير ينسجم مع رسالتها، كما ورد في التعريف بالصحيفة، في نشر الوعي والثقافة والمعرفة، وإيمانها بأن الإعلام الجاد هو سلاح الشعوب نحو التقدم والنهوض، وأن الكلمة الصادقة والخبر الدقيق هما أساس التغيير الإيجابي. وغني عن القول إن هذا ما نحتاجه في تنمية الوعي وخدمة التنوير، وفي بناء سودان المستقبل. وفي تقديري أن التقرير الذي نشرته الصحيفة بعنوان “تقرير استقصائي: الأستاذ محمود محمد طه المفكر، المنهج، والإرث”، بتاريخ 12 أغسطس 2025، يُعبر عن الاحترام والاحتفاء بالفكر الحر، إلى جانب محاولة الإسهام في التعريف بمفكر سوداني إنساني أصيل وكبير. وعلى الرغم من أن الصحيفة أوضحت، قائلة: “يهدف هذا التقرير إلى تقديم قراءة استقصائية عميقة وشاملة لحياة الأستاذ محمود محمد طه وفكره ومنهجه”، غير أن بعض ما ورد في التقرير يحتاج إلى مراجعة وتصحيح وتدقيق. وهذا ما يسعى إليه مقالنا هذا، من باب الشراكة في الحرص على التعاطي العلمي مع السيرة الفكرية للمفكر محمود محمد طه، ومع مشروعه الفكري: الفهم الجديد للإسلام، إلى جانب الدعم لجهود الصحيفة في تحقيق أهدافها المعلنة، وكان أولها، كما قالت: “توفير محتوى إعلامي متوازن ومستند على الحقائق”. يضاف إلى ذلك، وفي سبيل تطوير أدوات البناء الجماعي، علينا استنهاض مروءة المثقفين والمثقفات واستشعار المسؤولية في الواجب الثقافي والواجب الوطني والواجب الإنساني، بالعمل على فكرنة الحوار وعقلنته في كل شؤون السودان والإنسان والفكر، فما تأذى السودان، مثلما تأذى من أحاديث مثقفيه وكتاباتهم في شؤونه وقضاياه، بلا علم، وبلا فكر. ولقد ظل الفكر في السودان، أمام ضعف التناول وركاكة العطاء، وهيمنة رجال الدين، وتصدي “أنصاف المثقفين”، كما وصفه الأستاذ محمود، قائلاً: “الفكر يتيم في هذا البلد”.
اشتمل تقرير صحيفة التنوير، وقد لاحظت أن نفس هذا التقرير نشرته صحيفة الراكوبة بتاريخ 11 أغسطس 2025، على الكثير من القضايا التي يجب تصحيحها، ومراجعتها، وتدقيقها. مع تقديرنا بأن الأخطاء التي اشتمل عليها التقرير، لم تكن بسوء نية أو قصد. ومع ذلك فإننا نذكر بأن العمل في ميدان تنمية الوعي وخدمة التنوير بالفهم الجديد للإسلام والسيرة الفكرية لصاحبه الأستاذ محمود محمد طه، وكل شؤون الفكر، يتطلب استيفاء الشروط العلمية، والالتزام الصارم بالمنهج التوثيقي في التعاطي مع مصادر الفكر الجمهوري، فضلاً عن تحري الدقة والمسؤولية والورع العلمي. وأدناه تصحيح لبعض القضايا التي تضمنها التقرير، وقد تهيكلت في المحاور الآتية: مقاومة المجلس الاستشاري لشمال السودان الرسالة الثانية من الإسلام ليست جديدة وإنما الجديد هو الحديث عنها الرسالة الثانية تكميل لتشريع الرسالة الأولى عبر تطويره سجناء الماضي: التحالف الديني العريض وتجليات كسل العقول وتناسل الجهل الحرية الفردية المطلقة ما هي؟ ولماذا هي مطلقة؟ الفكر الجمهوري/ الفهم الجديد للإسلام ليس اجتهاداً على الاطلاق الصلاة لا تسقط اطلاقاً وإنما يسقط التقليد وقائع المحاكمة 1985 إبطال الحكم خاتمة: اقتراح بسحب التقرير.
مقاومة المجلس الاستشاري لشمال السودان
ورد في تقرير صحيفة التنوير: “دعا الأستاذ إلى مقاومة المجلس الاستشاري لشمال السودان، الذي اعتبره خطوة استعمارية نحو استقلال شكلي”.
نعم أعلن الأستاذ محمود رفضه لقيام المجلس الاستشاري لشمال السودان، ودعا لمقاومته، ولكنه لم يعتبره “خطوة استعمارية نحو استقلال شكلي”، بأي حال من الأحوال، وإنما اعتبره نية مبيتة من المستعمر بهدف فصل جنوب السودان، وقد تحدث، قائلاً: “الإنجليز نواياهم مبيتة لفصل الجنوب ولذلك أنشأوا المجلس الاستشاري لشمال السودان ونواياهم كلها في أنهم يفصلوه”. ولهذا قال تجب مناهضة المجلس الاستشاري ومقاومته ومقاطعته وعدم الالتزام بأي قرار أو قانون يصدر عنه. وظل يدعو قادة الحركة الوطنية مخاطباً حسهم الوطني بأن يكفوا عن التعاون مع المجلس الاستشاري. ولمَّا أصبح البعض أعضاء في المجلس، أرسل لهم الرسائل مستصرخاً فيهم الضمير الوطني ليقفوا موقفاً وطنياً مشرفاً، ودعاهم لمقاومة المجلس الاستشاري. لقد قدم الأستاذ محمود في مناهضته للمجلس الاستشاري، نموذجاً فريداً في المواجهة والتضحية من أجل قضية جنوب السودان، ليكون بذلك السجين الأول والسجين الوحيد من أجل قضية جنوب السودان، وهو ما عُرف بالسجن الأول خلال الفترة: (الأحد 2 يونيو الاثنين 22 يوليو 1946).
يعود إنشاء المجلس الاستشاري إلى منتصف أربعينات القرن الماضي، عندما شعرت الإدارة الاستعمارية بأن الحركة الوطنية بدأت تطالب بالاستقلال وتطالب بالاتحاد مع مصر والوحدة مع مصر، بدأت في إنشاء مؤسسات دستورية، تمهيداً، كما زعمت، لتطوير السودان نحو الحكم الذاتي. أصدرت “قانون المجالس الاستشارية سنة 1943 قانون نمرة 7 سنة 1943″، والذي جاء بموجبه التشريع نمرة 36 سنة 1943 أمر بإنشاء المجلس الاستشاري لشمال السودانThe Advisory Council for the Northern Sudan جاء المجلس ليكون قاصراً على مديريات السودان الشمالية الست، ولم تكن المديريات الجنوبية ضمنه. كانت وظيفة المجلس الاستشاري هي تقديم المشورة إلى الحاكم العام. وعللت المذكرة الايضاحية لقانون المجلس الاستشاري، بأن الأسباب التي دعت أن يكون هذا المجلس قاصراً على المديريات الشمالية الست من غير المديريات الجنوبية، تنطوي على حقيقتين، أولاهما: أن الحالة العامة، اجتماعية وثقافية واقتصادية ولغوية في شمال السودان تختلف، اختلافاً عظيماً من مثيلاتها في جنوب السودان. وثانيهما أن الاختلاف الإثني والتأخر النسبي لقبائل جنوب السودان يحول دون انتخاب ممثلين لائقين من الأهلين وبالاختصار لا يمكن في الوقت الحاضر تمثيل الجنوب في الشمال تمثيلاً كافياً كما لا يمكن أن يمثل الشمال الجنوب. رفض الأستاذ محمود كل هذه المبررات رفضاً قاطعاً، وقاوم المجلس الاستشاري مقاومة صارمة ومستمرة. كما عدَّ قيامه فصلاً مبكراً لجنوب السودان. (للمزيد أنظر: عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021).
الرسالة الثانية من الإسلام ليست جديدة وإنما الجديد هو الحديث عنها
ورد في التقرير: “بعد أن تبلورت رؤيته الفكرية الجديدة، تحول الحزب الجمهوري إلى ما أسماه طه “رسالة الإسلام الجديدة”. لم يسم طه مشروعه الفكري بهذا الاسم على الإطلاق.. لقد وسم طه مشروعه الفكري، بعدة أسماء، لم يكن من بينها ما ورد في التقرير “رسالة الإسلام الجديدة”.. جاءت في كتاباته وأحاديثه، وهي: الدعوة الإسلامية الجديدة، والمذهبية الإسلامية الجديدة، والبعث الإسلامي، وإحياء السنة، والفكرة الجمهورية، والفكر الجمهوري، والفهم الجديد للإسلام، والرسالة الثانية من الإسلام. وقد تحدث الأستاذ محمود، قائلاً: “إن الرسالة الثانية من الإسلام، ليست جديدة، فهي موجودة في القرآن، وإنما الجديد هو الحديث عنها”. والرسالة الثانية من الإسلام هي سنة النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. والسنة ليس كما يعرفها رجال الدين بأنها عمل النبي، وقوله واقراره، وإنما السنة، عند طه، هي عمل النبي في خاصة نفسه، فقد عاشها، كونها تكليفه، في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية)، التي هي آيات الإسماح والحرية وكرامة الإنسان، وهي ذات الخطاب الكوكبي والإنساني، بينما كان تكليف أمته في مستوى ما تطيقه، وهو مستوى الشريعة، مستوى آيات الفروع (الآيات المدنية).
الرسالة الثانية تكميل لتشريع الرسالة الأولى عبر تطويره
ورد في التقرير: “كانت الرسالة الأولى (قرآن المدينة) بمثابة تشريعات مرحلية وموجهة لمجتمع المدينة في القرن السابع الميلادي، وقد انتهت بانتهاء عصر الرسول. أما الرسالة الثانية (قرآن مكة)، فتمثل القيم الإنسانية المطلقة والدائمة للإسلام، مثل الحرية، والمساواة، والتسامح، والرحمة”.
هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة وضبط وتصحيح، خاصة في الجزء الأول منه. ليس صحيحاً بأن الرسالة الأولى “قد انتهت بانتهاء عصر الرسول”، كما جاء في التقرير. ذلك لأن الرسالة الثانية من الإسلام التي يدعو لها الأستاذ محمود، هي تكميل لتشريع الرسالة الأولى، كما يقول، بتطويره ليحقق قسطاً أكبر من الهدف الديني، والعمدة في التطوير أمران: حاجة المجتمع الحاضر، وروح الإسلام، كما كان يعيشها المعصوم. فأما روح الإسلام، كما كان يعيشها المعصوم، فهي الحرية الفردية المطلقة، وأما حاجة المجتمع الحاضر فهي العدالة الاجتماعية الشاملة، ولا تتم العدالة الاجتماعية الشاملة إلا إذا قامت على ثلاث مساويات: المساواة الاقتصادية، والمساواة السياسية، والمساواة الاجتماعية. (محمود محمد طه، الإسلام، 1960). وليس هناك حديث عن انتهاء الرسالة الأولى بانتهاء عصر الرسول، كما ورد في التقرير، فكل ما هناك فهم جديد للإسلام، يقوم هذا الفهم على الآيات التي كانت منسوخة في القرن السابع الميلادي، وهي الآيات المكية (آيات الأصول)، وكانت آيات الفروع (الآيات المدنية)، هي المحكمة. ولقد نُسخت الآيات المكية، لأنها كانت أكبر من القرن السابع الميلادي، ولم يحن وقتها، بينما أُحكمت الآيات المدنية لأنها تناسب الوقت، وتناسب حاجة المجتمع في القرن السابع. واليوم إن الآيات التي كانت تناسِب القرن السابع، تُصبح منسوخة، وتُبعث الآيات التي كانت منسوخة في ذلك الوقت، لأن وقتها لم يجيء يومئذ وإنما جاء اليوم. ولهذا فإن الدعوة لبعث الآيات الأصول (الآيات المكية) لتكون محكمة اليوم. (محمود محمد طه، “لقاء الأستاذ محمود محمد طه بالصحفي حسن ساتي”، مجلة صباح الخير/ مجلة روز اليوسف، 14 سبتمبر 1976).
سجناء الماضي: التحالف الديني العريض وتجليات كسل العقول وتناسل الجهل
ورد في التقرير تحت عنوان فرعي هو “خصوم الفكرة”، القول: “واجه محمود محمد طه معارضة شديدة من المؤسسات الدينية والعلماء. كان أبرز خصومه الفكريين والسياسيين هو الدكتور حسن الترابي، زعيم الحركة الإسلامية في السودان، الذي اعتبر أفكار طه انحرافًا عن الشريعة وتهديدًا للمجتمع الإسلامي. يرى بعض المحللين أن الصراع بين طه والترابي لم يكن مجرد خلاف فقهي، بل كان تنافساً سياسياً عميقاً على المرجعية الفكرية في السودان. أشار بعض المقربين من الترابي إلى أن الأخير كان يخشى من تراجع نميري عن إعدام طه، مما يعكس الأبعاد السياسية الخفية لهذا الصراع”.
هنا لابد من التوضيح بأن المفكر محمود محمد طه واجه تحالفاً دينياً عريضاً له امتداد واسع في الفضاء الإسلامي، ولم يكن الدكتور حسن الترابي وجماعته في السودان، الإخوان المسلمين، سوى حلقة من الحلقات. كما لم يكن الإخوان المسلمين في السودان، وكذلك رجال الدين في السودان سوى أدوات تم توظيفها، كونهم لم يكونوا أصلاء في مواقفهم أو في نقدهم، بل لم يقدموا نقداً علمياً وفكرياً يذكر، سوى خربشات وخزعبلات سممت الفضاء الإسلامي، ولوثت العقول بالباطل. ولهذا فإن التوصيف الدقيق والمستند على الوقائع والوثائق، وحتى نفهم الحجم الحقيقي لأزمة الفكر الإسلامي، هو أن المفكر محمود محمد طه واجه تحالفاً دينياً عريضاً له امتداد واسع في الفضاء الإسلامي. وكان قوام هذا التحالف: الأزهر (مصر)، الذي أفتى بكفر الأستاذ محمود في 5 يونيو 1972، والمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي (السعودية)، الذي أفتى بردته عن الإسلام في العام 1975، وكان المجلس يتكون من (60) عضواً ممثلين لـ (43) دولة من دول العالم الإسلامي أوانئذ، واليوم تضم الرابطة (57) دولة، وقد جاء قرار فتواهم بالردة بالإجماع. كذلك كانت هيئة علماء السودان، صاحبة أكبر سجل بيانات في إرهاب المثقفين وتهديدهم ومنعهم من إعلان مناصرتهم للأستاذ محمود، ومعهد أم درمان العلمي (أزهر السودان)، الذي أصبح في منتصف ستينات القرن الماضي جامعة أم درمان الإسلامية، التي ظلت مطية الأزهر في تغذية التكفير والهوس الديني، وتكييف المزاج الديني في السودان، فمثلت أحد أكبر روافد الفكر التكفيري، حيث قامت بدور خطير في غرس الفتنة وبث ثقافة الردة عن الإسلام في السودان. وأيضاً كان لعلماء الدين في السعودية، دور كبير، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز، الرئيس العام، لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي. وعلماء الدين في السودان، لا سيما الشيخ عبد الماجد أبو قصيصة (1910 1993) الذي كان قاضي قضاة السودان، بمعية مجموعة من العلماء ورجال الدين. وكذلك بعض رجالات الطائفية والمثقفين والقادة السياسيين في السودان، ووزارة الشؤون الدينية والأوقاف السودانية، وبعض كبار موظفي الدولة السودانية، وبعض أعضاء مجلس السيادة (1968). (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، المؤسسات الدينية: تغذية التكفير والهوس الديني، 2022؛ عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، 2020).
استطاع هذا التحالف الديني العريض، نسج سردية تكفيرية باطلة، ونشط في بثها في الفضاء الإسلامي والعالمي. وقد استمدت هذه السردية ديمومتها من التآمر المستمر والمرزوء بكسل العقول وتناسل الجهل. الأمر الذي يتطلب منا الشراكة في المقاومة من أجل تنمية الوعي، لهدم هذه السردية التكفيرية الباطلة، وبناء السردية الجديدة بالحق والعلم والفكر والأخلاق والمسؤولية الفردية. ولهذا فإن التفسير الصحيح الذي يسوق إليه العلم والفهم الدقيق لخصوم الفكرة الجمهورية، ولفهم حجم أزمة الفكر الإسلامي، هو أن الخصوم هم ذلك التحالف الديني العريض، والذي شمل كل الفضاء الإسلامي، كما ورد التفصيل آنفاً.
العبودية هي الحرية.. وليست العبادة هي الحرية
الحرية الفردية المطلقة ما هي؟ ولماذا هي مطلقة؟
جاء في التقرير: “يؤكد طه على أن العبادة هي الحرية، وأن الفردية المطلقة هي التي تحقق السلام الداخلي والتوحيد”.
هذا قول يحتاج لمراجعة وضبط وتدقيق وتصويب. ذلك لأن طه لا يقول “العبادة هي الحرية”، كما ورد في التقرير، وإنما يقول: إن العبادة هي وسيلة العبودية، بينما “العبودية هي الحرية”، وهي الرضا بالله. فهو يقول: “إن العبودية هي الحرية.. لأنها حرية من الخوف. ووسيلة العبودية العبادة، وفي قمة العبادة الصلاة”. ويقول كذلك: “التكليف الأصلي العبودية، والتكليف الشرعي العبادة، لأن العبودية لا تأتي إلا بالعبادة، وكل عبادة لا توصل للعبودية عبادة باطلة”. وكل منا، يسير إلى فرديته، لأن التكليف بالعبودية تكليف فردية، والتكليف بالعبادة جماعية لنسير للفرديات. (للمزيد أنظر: محمود محمد طه، رسالة الصلاة، 1966 ؛ محمود محمد طه، تطوير شريعة الأحوال الشخصية، 1971؛ محمود محمد طه، تعلموا كيف تصلون، 1972 ؛ عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام، 2024).
والقول بأن “الفردية المطلقة هي التي تحقق السلام الداخلي والتوحيد”، كما جاء في التقرير قول يحتاج لمراجعة وضبط وتصويب. كون تحقيق السلام عند الأستاذ محمود، هو غاية التوحيد. وغاية التوحيد أن تعيش في سلام مع الله ومع نفسك ومع الآخرين، بإيجاد التناسق وإخراج النشاز القائم في البنية البشرية المقسومة، حيث إيجاد الجمال. والجمال، عند الأستاذ محمود، لا يقف عند معنى إخراج النشاز، وإنما هو العدل الإنساني، هو المحبة الإنسانية، هو المعيشة مع الناس في سلام.. والجمال هو السلام.. ولا يمكن الوصول للسلام مع الآخرين إلا إذا كنا في سلام مع أنفسنا.. السلام مع أنفسنا هو الأساس. والفردية، عند الأستاذ محمود، هي جوهر الأمر كله، وهي التي عليها مدار التكليف، ومدار التشريف.. وقد وكدها الإسلام، كما يقول الأستاذ محمود، توكيداً، إذ لا تنصب موازين الحساب، يوم تنصب، إلا للأفراد، يتساوى في ذلك أي فرد ممن يسمون برجال الدين، والأفراد جميعهم من الرجال والنساء، فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ ويقول: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾ ويقول: ﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ ويقول: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)﴾ ، ويقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾”.
وينظر الأستاذ محمود إلى الحرية الفردية على مستويين: مستوى الحرية المُقَيَّدة بقوانين دستورية، ومستوى الحرية المطلقة. والفرد الحر في المستوى الأول، هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط ألا تتعدى ممارسته لحريته في القول، أو العمل، على حريات الآخرين، فإن تعدى تعرضت حريته للمصادرة وفق قوانين دستورية، جزاءً وفاقاً. والفرد الحر في المستوى الثاني هو الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، ثم لا تكون نتيجة ممارسته لكل أولئك إلا خيراً، وبركة، وبراً بالناس والأحياء والأشياء، وأدنى مراتب الحرية الأولى العدل، وأدنى مراتب الحرية الثانية العفـو. والحريتان متداخلتان، كما يقول طه، فالأولى منهما مرحلة إعداد للثانية، إذ لا يبلغ الفرد منازلها إلا بالتمرس بالمجهود الفردي في تربية النفس، بمراقبتها، ومحاسبتها، وترويضها لتصبح موكلة بالتجويد، كلفة بالإحسان.
وبيَّن الأستاذ محمود بأن غاية: الفهم الجديد للإسلام، هي إنجاب الفرد الحر حرية مطلقة، ولهذا فإن كل شيء في الرسالة الثانية من الإسلام، كما يرى، هو وسيلة إلى إنجاب الفـرد الحر، حرية مطلقة، المجتمع، والإسلام والقرآن، والعبادات، والصلاة، من باب أولى.. فإذا ما قهرنا الفرد، وحملناه على العبادة بالإكراه، تكون الوسيلة قد هزمت الغاية منها، وهو وضع معكوس بطبيعة الحال. ويكون إنجاب الفرد الحر بوسيلتين اثنتين: أولاهما وسيلة المجتمع الصالح، كون “المجتمع وسيلة موسلة لحرية الفرد”. كما أن المجتمع الصالح يقوم، كما ورد آنفاً، على المساويات الثلاث: المساواة الاقتصادية (الاشتراكية). والمساواة السياسية، (الديمقراطية). ثم المساواة الاجتماعية، التي تستهدف محو الطبقات، وإسقاط الفوارق التي تقوم على اللون، أو العقيدة، أو العنصر، أو الجنس، من رجل، وامرأة، فضلاً عن الرأي العام السمح. أما ثانيتهما، أي الوسيلة الثانية لإنجاب الفرد الحر، هي المنهاج التربوي العلمي الذي يواصل به الفرد مجهوده الفردي. وهذا المنهاج هو تجسيد حياة محمد الإنسان، النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كما بينه محمود محمد طه في كتابه: طريق محمد. والطريق هو النهج العملي الذي يوصل إلى الله، أي الحضور مع الله.
والحرية الفردية المطلقة، عند الأستاذ محمود، هي روح الإسلام، كما كان يعيشها المعصوم النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ولمَّا (كانت أخلاقه القرآن) أي النبي الكريم، ومعلـوم أن القرآن أخلاق الله، وأخلاق الله إنما هي في الإطلاق، فمن هنا جاء الاطلاق في “الحرية الفردية المطلقة”، وهي مرتبطة بالأخلاق التي هي المسؤولية. ومن هنا جاء التعريف عند الأستاذ محمود، بأن الأخلاق هي حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة. ويُبين بأن حسن التصرف هذا يكون بإزاء الخالق أولاً، والخلق ثانياً، وفي نفس الأمر. وبهذا تكون الأخلاق قد أصبحت مسئولية واضحة.. وأمام من؟ أمام الناس، وأمام نفسك، وأمام الله، الذي يرى خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي آنٍ واحد، وبغير تسلسل زمني. ومن هنا يتضح ارتباط الأخلاق، التي هي المدنية، عند طه، بالدين، إذ يقول طه إن “الدين هو الأخلاق”. وفي هذا يرى طه بأنه عندما أشرقت شمس المدنية الإنسانية الجديدة، التي أتى بها النبي الكريم، المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، في القرن السابع الميلادي، فإن القيمة البشرية ارتفعت إلى قمة لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية. ولقد قال المعصوم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فكأنه قال ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق، و (كانت أخلاقه القرآن). ولقد كان النبي الكريم، كما يقول الأستاذ محمود، أقدر الناس على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وذلك لشدة مراقبته لربه، ولدقة محاسبته لنفسه، على كل ما يأتي، وما يدع، في جانب الله، وفي جانب الناس. أليس هـو القائل (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)؟ بل ان حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة إنما هو سنة النبي. وهذه السنة، كما يقول الأستاذ محمود، هي التي أشار إليها النبي الكريم في حديثه المشهور عن عودة الإسلام، وذلك حيث يقول (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء! قالوا من الغرباء يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنتي بعد اندثارها). “فسنته هي مقدرته، في متقلبه ومثواه، وفي منشطه ومكرهه، على حسن التصرف في الحرية الفردية المطلقة، وتلك هي قمة الأخلاق، وهي أيضا قمة المدنية” . (للمزيد أنظر: محمود محمد طه، الإسلام، 1960 ؛ عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام، 2024).
الفكر الجمهوري/ الفهم الجديد للإسلام ليس اجتهاداً، على الاطلاق
ورد في التقرير: “وأن ما قدمه هو مجرد اجتهاد فكري لتجديد الدين”. وجب التوضيح بأن دعوة الأستاذ محمود هي لتجديد فهم الدين، كما أن ما طرحه ليس “مجرد اجتهاد فكري”، كما ورد في التقرير. لقد أوضح الأستاذ محمود بأن دعوته: الفهم الجديد للإسلام/ الفكر الجمهوري، ليست اجتهاداً على الإطلاق، قائلاً: “ليست اجتهاداً، في ما ليس فيه نص، وليس اجتهاداً فيما فيه نص”. والسؤال: لماذا ليست اجتهاداً؟ أجاب الأستاذ محمود، قائلاً: “هي ليست اجتهاداً لأن الاجتهاد نحت”. إذن ما هي؟ يجيب الأستاذ محمود، قائلاً: “إنما هي فهم جديد للنصوص القديمة المألوفة.. وهي في الحقيقة علم مفاض، بفضل الله ثم بفضل التوجه والتوسل بالوسيلة النبوية لمفاتيح القرآن”. وهنا سؤال يدفع بنفسه، كيف بدأ طه؟ ويتبعه سؤال مشروع وهو كيف وصل لهذا العلم المفاض؟
أجاب طه عن هذين السؤالين، إجابة تعيدنا لأهم ركائز البعث الإسلامي. كذلك تكشف إجابته، ونحن نستدعي التحالف الديني العريض من سجناء الماضي، والعداء لفكر طه، عن مدى مفارقتنا للقرآن الكريم. وتسوقنا الإجابة كذلك إلى حاجتنا لإعادة النظر في بعث القرآن وتجسيده، وتمعن معانيه، وتتبع وعُودِه، بل وضعتنا أمام امتحان مدى إيماننا وقناعتنا به. تحدث طه عن بدايته، قائلاً: “أما أنا فقد بدأت بالجانب التطبيقي في العبادة بإحياء السنة، قولاً وعملاً، وسلوكاً، منتظراً موعود الله، حيث قال: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ)”. وهنا يظهر تقفى طه والتزامه بأهم وسائل العلم الروحي التجريبي، وأولها، وهي القرآن والسنة النبوية. أخذ طه بتطبيق المنهج القرآني في العلم والتعليم، فعلمه الله، علماً فاق العلم السائد والمألوف عن الإسلام، وتجلت غرابته. فقد تحدث طه، قائلاً: “فلما جرى على لساني، وقلمي، وسيرتي ما علمني الله من حقائق دينه، ظنه الناس ليس من الإسلام.. وما علموا: أن ما أقوله، وأسلكه، هو الإسلام، عايداً من جديد.. وأن الغرابة في هذا القول، وهذا السلوك، إنما هي لازمة من لوازم البعث الإسلامي”. وفي هذا ذكرنا طه بقول النبي الكريم، حيث قال: حدثنا النبي فقال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!)”. (للمزيد أنظر: محمود محمد طه، “تفسير مصطفى محمود بضاعة مزجاه”، (حوار صحفي)، صحيفة الأضواء السودانية، 4 أبريل 1970 ؛ عبدالله الفكي البشير، الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، 2013).
وبهذا فإننا أمام مشروع فكري مختلف عن المشاريع الفكرية المطروحة، وقد أخبرنا صاحبه بأن مصدر معرفته تجربة روحية، فهو علم مفاض، وأن الأصل فيه دعوة للإنسانية جمعاء. ولهذا فإننا ندعو غير المقتنعين إلى امتحان ثمار هذا المفكر وتقييم أفكاره، ومعيرتها، بمعايير القرآن لمن يشاء، وبإخضاعها للمعايير الإنسانية لمن يريد، فضلاً عن مقارنتها بمتطلبات الواقع الراهن ومدى تلبيتها لحاجة الإنسان المعاصر. ومن المؤكد بأن ذلك لا يتم، إلا بدراسة هذا الفكر، وفتح الحوار حوله بالأدوات العلمية، مع الالتزام بالقيم الأخلاقية، فالجهل بالأمر لا يعني خطأه، وغرابة الأمر لا تعني عدم صحته، وعقل الإنسان في حالة نمو، فما لا يدركه اليوم يدركه غداً.
الصلاة لا تسقط اطلاقاً، وإنما يسقط التقليد
جاء في تقرير صحيفة التنوير: “اتهم طه بإنكار بعض أركان الدين الأساسية. من أبرز هذه الانتقادات رؤيته للصلاة، حيث يرى أنها ليست دائمة بل مؤقتة وتسقط عن المسلم بعد ارتقائه إلى مرحلة الإيمان، لتتحول إلى مجرد مناجاة”.
على عكس ما ورد في التقرير، فإن الأستاذ محمود لا يقول بسقوط الصلاة، وإنما يرى بأن “الصلاة لا تسقط اطلاقاً، وإنما يسقط التقليد”. والصلاة في الإسلام، وفقاً للفهم الجديد للإسلام، صلاتان: صلاة المعراج، وصلاة الصلة. وصلاة المعراج، هي الصلاة الشرعية، وهي وسيلة إلى صلاة الصلة.. ويقول الأستاذ محمود إن: “الصلاة أشرف عمل العبد.. فإنه، إذا كانت أعلى العبادات اللفظية هي (لا إله إلا الله)، فإن أعلى العبادات العملية هي الصلاة”. وقد جمعت هذه في العبارة القرآنية ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فالكلم الطيب (لا إله إلا الله) والعمل الصالح على قمته الصلاة. والترقي المستمر في الفكر يكون بمنهاج الصلاة، وأول الفكر، كما يقول الأستاذ محمود، أن نعرف ما تؤديه إلينا الصلاة الشرعية من قيمة فكرية، وحياتية.. وهذا يقتضي أن نعلم جيداً، أن الصلاة وسيلة، وليست غاية. والوسيلة دائماً من جنس الغاية.. فهي طرف منها، والاختلاف بين الوسائل وغاياتها اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع، ولا يمكن لدى النظر السليم التوسل إلى الغايات الصحائح بالوسائل المراض. والصلاة التي هي وسيلة، الصلاة الشرعية المألوفة، في الحركات المعروفة والأوقات، وهي وسيلة إلى ذكر الله، يقول الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾. وذكر الله هو الحضور معه بلا غفلة عنه، وثمرة الذكر بلا انقطاع ولا غفلة تمام المعرفة بالله وثمرة تمام المعرفة الرضا بالله، وعاقبة الغفلة عن الله السخط عليه، وأدق مظاهر السخط على الله التمني، وهو ما نهت عنه الآية الكريمة المعصوم، ﴿فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ (131)﴾. والرضا بالله مجاهدة في مقام العبودية، فإن العبد لا يزال يجاهد دواعي طبعه إلى السخط على الله، وعدم الرضا به في دقائق صور السلوك جميعها، حتى يرضى الله تعالى عنه، فينتقل من مرتبة النفس الراضية إلى مرتبة النفس المرضية وهي النفس التي لا يلقيها الله إلا ما تحب.
وكون هذه الصلاة الوسيلة، موصوفة بكلمة “المعراج” في حديث المعصوم: (الصلاة معراج العبد إلى ربه)، وحده، كما يقول الأستاذ محمود، يكفي في الدلالة على حقيقتها.. والمعراج السلم الذي على درجاته نرقى إلى المقامات.. وأول درجاته في مرتبة الشريعة الجماعية ـ شريعة الأمة المؤمنة ـ وأعلى درجاته في مرتبة الشريعة الفردية ـ شريعة الأمة المسلمة ـ فنحن السالكون علينا أن نرتقي بكل صلاة نؤديها، بكل ركعة نعقدها ـ إن لم نقل بكل حركة، من كل ركعة ـ علينا أن نرتقي نحو مرتبة الشريعة الفردية، لأن تكليفنا إنما هو (العبودية) بوسيلة (العبادة).. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.. يعني ليكونوا لي (عبيدا) بوسيلة العبادة.. وأعلى (العبادة) الصلاة.. و(العبودية) إنما هي مرتبة فرديات.. وهي لا تتم إلا إذا سقطت الوسائط بين الرب والعبد.
وصلى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، صلاة معراجه يرتقي بها، كل يوم، إلى صلاة الصلة.. وندبنا نحن لنصلي صلاة معراجنا، لنسير بها، كل يوم، إلى صلاة صلتنا. إن صلاة المعراج هي شريعة النبي الخاصة، كنبي.. وهي شريعته لأمته، كرسول.. يجئ من هذا الوضع أننا نصلي صلاة المعراج، من حيث الهيئة، كما يصليها، غير أنه هو أصيل، ونحن مقلدون.. ولقد جاءت عبارته لنا في التقليد هكذا: (صلوا كما رأيتموني أصلي).. فإذا نحن استعملنا صلاة المعراج في تقليد النبي بإتقان ـ حركة أجسادنا، وحالة قلوبنا ـ فإننا نعرج بها إلى صلاة الصلة.. وبصلاة الصلة تتم العبودية.. وعند العبودية تسقط الواسطة، ويقوم العبد في مواجهة الرب. والتقليد، كما يرى الأستاذ محمود، ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى الأصالة.. وعند الأصالة تزول واسطة النبي من بيننا وبين ربنا، وذلك لكمال تبليغه، ويرفع بزوالها عنا، الحجاب الأعظم، ونأخذ من الله بلا واسطة، ويكون الله هو معلمنا العلم اللدني.. والصلاة وسيلة إلى تلقي العلم اللدني. والقاعدة في ذلك من كتاب الله، قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، ومن حديث المعصوم قوله: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم).
(للمزيد أنظر: كتب الأستاذ محمود محمد طه، وقد وردت الإشارة إليها: رسالة الصلاة ؛ تطوير شريعة الأحوال الشخصية؛ تعلموا كيف تصلون. وكذلك أنظر: عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام، 2024. لقد تضمن هذا الكتاب فصلاً عن الصلاة، كما أورد معظم الأسئلة التي تم توجيهها للأستاذ محمود عن الصلاة في المحاضرات والصحف، منذ العام 1952، وأورد الفصل إجابات الأستاذ محمود عن تلك الأسئلة. وقد جاء الفضل بعنوان: “نسف السرديات الباطلة بالحق والعلم والفكر والأخلاق: هل رُفعت الصلاة عن محمود محمد طه؟ كما شيع البعض.. وهل كان يصلي؟”، وتمحور الفصل حول المحاور الآتية: إضاءة على كتابات محمود محمد طه وأحاديثه عن الصلاة الصلاة في الفهم الجديد للإسلام الصلاة صلاتان: صلاة الصلة وصلاة المعراج الشريعة الفردية وأخذ الصلاة الفردية من الله بلا واسطة ما رأي محمود محمد طه فيما يوجه إليه من اتهام بأنه يرى أن الصلاة رُفعت عنه؟ وهل كان يصلي؟ الشريعة الفردية: شريعة العارف في مستوى معرفته وصلاته تزيد عن صلاة الإنسان العادي كيف هي صلاة محمود محمد طه؟ وهل هي مثل صلاتنا ذات الحركات المعلومة؟ كأنما الصلاة الشرعية قاعدة وصلاة الصلة قمة لماذا كان النبي يصلي الصلاة ذات الحركات حتى التحاقه بالرفيق الأعلى؟ المؤمن لن ينفك عن التقليد بينما يرتفع المسلم المجوّد من التقليد إلى الأصالة، لماذا لم يؤت أحد من أصحاب النبي صلاة الأصالة؟ أخذ الصلاة بالجد التام، منشأ سردية رفع الصلاة عن محمود محمد طه.
وقائع المحاكمة 1985
لم تكن مادة الردة في القانون أوانئذ، وإنما استدعت المحكمة حكم المحكمة الشرعية غير المختصة عام 1968 وفتوى الأزهر بالكفر عام 1972، وفتوى رابطة العالم الإسلامي بالردة عن الإسلام، عام 1975
ورد في التقرير: “وُجهت إلى طه تهمتان رئيسيتان: الأولى هي تهمة سياسية تتعلق بـ “تقويض الدستور وإثارة الحرب ضد الدولة”، والثانية هي تهمة فقهية تتعلق بـ”الردة”. كانت المحكمة قد استندت إلى قانون العقوبات لعام 1983 في التهمة الأولى، وإلى قانون أصول الأحكام القضائية لعام 1983 في التهمة الثانية”.
هذا حديث يحتاج لضبط وتصحيح. كان الأستاذ محمود قد قُدّم وأربعة من تلاميذه يوم الاثنين 7 يناير 1985م للمحاكمة أمام محكمة الطوارئ، برئاسة حسن ابراهيم المهلاوى. فأعلن الأستاذ محمود رفضه التعاون مع المحكمة، بكلمة خالدة وآبدة، صدح بها في قاعة المحكمة (للاطلاع على نص كلمة الأستاذ محمود، أنظر ملحق رقم: “1” في نهاية هذا المقال).
كانت التهمة الموجهة إليهم، هي المادة (96) من قانون العقوبات آنذاك (إثارة الكراهية ضد الدولة) ولم تكن توجد بالقانون تهمة تسمى الردة، ولا يشتمل الدستور على مادة الردة.. وقد أدانتهم المحكمة تحت المادة المذكورة (إثارة الكراهية ضد الدولة)، وقامت في 8 يناير 1985 بإصدار حكمها المعد سلفاً بالإعدام على طه وتلاميذه الأربعة.
ثم رفع الحكم تلقائياً إلى محكمة استئناف برئاسة القاضي المكاشفى طه الكبّاشى، التي قامت بتحويل الحكم من إثارة الكراهية ضد الدولة، إلى اتهام بالردة. ولمَّا لم يكن الدستور مشتملاً على مادة الردة عن الإسلام، قامت المحكمة باستدعاء حكم المحكمة الشرعية بالخرطوم في 18 نوفمبر 1968، وهي محكمة غير مختصة، واستشهدت به، كما استدعت الفتاوي الصادرة من الأزهر عام 1972، ومن رابطة العالم الإسلامي عام 1975 واستشهدت بهما. كما أيدت الحكم بالإعدام الذي نُفذ في 18 يناير 1985.
ويتضح كل ذلك فيما جاء لاحقاً في إعلان المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية، بطلان الحُكم في حق الأستاذ محمود من المحكمة الجنائية ومحكمة الاستئناف، إذ قالت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية أن المحكمة في حكمها في يناير 1985م قد: “استشهدت بحكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم الذي صدر في عام 1968م بإعلان ردة محمود محمد طه، واستعرضت بعضاً مما جاء في كتب صدرت عن الجمهوريين، وما صدر عن المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي من تأييد لحكم عام 1968م، وما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بجمهورية مصر العربية من وصف لفكر محمود محمد طه “بالفكر الملحد” وخلصت محكمة الاستئناف الجنائية من كل ذلك إلى أنه “مما تقدم يتضح أنّ محمود محمد طه مرتد عن الدين ليس فقط ردة فكرية وإنما هو مرتد بالقول والفعل داعية إلى الكفر معارض لتحكيم كتاب الله … إلخ”.. وأضافت المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية، قائلة “ولعلنا لا نكون في حاجة إلى الاستطراد كثيراً في وصف هذا الحكم، فقد تجاوز كل قيم العدالة سواء ما كان منها موروثاً ومتعارفاً عليه، أو ما حرصت قوانين الإجراءات الجنائية المتعاقبة على النص عليه صراحة ، أو انطوى عليه دستور 1973م الملغي رغم ما يحيط به من جدل …”.
إبطال الحكم
جاء في التقرير: “تعد قضية إبطال الحكم على محمود محمد طه من أشهر القضايا القانونية في تاريخ السودان. في عام 1986، تقدمت ابنته أسماء محمود محمد طه بطعن دستوري، وفي 18 نوفمبر 1986، أصدرت المحكمة العليا السودانية حكمًا بإعلان بطلان الحكم الصادر بحقه”.
والتصويب هنا يتصل بأن إبطال المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في السودان، للحكم كان بموجب القضية نمرة م ع/ق د/2/1406هـ، التي رفعها كل من أسماء محمود محمد طه وعبد اللطيف عمر حسب الله (وهو من أبكار تلاميذ محمود محمد طه، وقد أصبح جمهورياً في مساء الجمعة 30 نوفمبر 1951) ضد حكومة جمهورية السودان. وليس فقط “تقدمت ابنته أسماء محمود محمد طه بطعن دستوري”، كما جاء في التقرير. ومعلوم أنه بموجب تلك القضية أعلنت المحكمة بطلان الحُكم الصادر في حق الأستاذ محمود محمد طه وتلاميذه الأربعة الذين كانوا معه. ورأت المحكمة بأن الحكم، والذي نُفذ بموجبه إعدام محمود محمد طه، لم يكن سوى كيداً سياسياً، ووصفته بأنه قد “تجاوز كل قيم العدالة”. واستنبطت من خلاصة الوقائع بأن الحكم “لا يعدو أن يكون ستاراً لاغتيال خصم سياسي تحت مظلة صورية للإجراءات القضائية وتطبيق حكم القانون”. (للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، 2020).
خاتمة: اقتراح بسحب التقرير
سعى هذا المقال إلى تقديم مراجعة وتصحيح لبعض مما اشتمل عليه التقرير من أخطاء، وكان يمكن التوسع في المقال بتناول قضايا أخرى تضمنها التقرير، وهي تحتاج للمراجعة وإعادة النظر استناداً إلى مصادر الفكر الجمهوري، غير أن المقال أصبح طويلاً، فاكتفينا بالإشارة لبعض المصادر والمراجع المعينة والمتممة. ولهذا فإنني أرجو شاكراً من صحيفتي التنوير والراكوبة التكرم بنشر هذا المقال في سبيل ترقية الحوار وتنمية الوعي وخدمة التنوير عبر النقد البناء. كما أنني أقترح على الصحيفتين، سحب تقريرهما، والذي نشر بعنوان: “تقرير استقصائي: الأستاذ محمود محمد طه المفكر، المنهج، والإرث”، حتى لا يكون متاحاً على الإنترنت، ويتم التعاطي معه كمرجع للباحثين والباحثات، وكمادة تعريفية للقراء والقارئات، وهو قد اشتمل على أخطاء في المعلومات، ومن ثم عدم دقة في التحليل والاستنتاجات.
ملحق (1)
الكلمة الخالدة والآبدة: نص كلمة الأستاذ محمود محمد طه أمام المحكمة في 7 يناير 1985
أعلن الأستاذ محمود محمد طه رفضه التعاون مع المحكمة والتي كانت برئاسة المهلاوي، بكلمة خالدة وآبدة، صدح بها في داخل قاعة المحكمة، حيث تحدث، قائلاً:
“أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 83 من أنها مخالفة للشريعة، وللإسلام.. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام ونفرت عنه.. يضاف إلى ذلك، أنها وضعت واستغلت لإرهاب الشعب وسوقه إلى الإستكانة عن طريق إذلاله.. ثم إنها هددت وحدة البلاد.. هذا من حيث التنظير. وأما من حيث التطبيق، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها غير مؤهلين فنياً.. وضعفوا أخلاقياً عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق، وإذلال الشعب، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين.. ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب، وإهانة الفكر الحر، والتنكيل بالمعارضين السياسيين”.
المصدر: صحيفة التغيير