مقدمة: المفارقة المركزية في تجربة منصور خالد: رجل الدولة من الداخل وناقدها من الخارج

يمثل الدكتور منصور خالد (19312020) شخصية محورية ومفارقة في تاريخ السودان الحديث، فهو يجسد التوتر العميق بين دور “باني الدولة” الذي شارك في صياغة سياساتها العليا، ودور “الناقد الجذري” الذي شرّح إخفاقاتها البنيوية بلا هوادة.1 إن فهم مسيرته الممتدة والمتقلبة ليس مجرد استعراض لسيرة ذاتية، بل هو مدخل أساسي لفهم الأزمات الهيكلية التي لازمت الدولة السودانية منذ استقلالها: أزمة الهوية الوطنية، وأزمة الحكم الرشيد، والصراع المزمن بين المركز والأطراف، والذي تجلى بأقسى صوره في العلاقة بين شمال السودان وجنوبه.3

تكمن فرادة تجربة منصور خالد في أنه لم يكن مراقباً خارجياً أو أكاديمياً منعزلاً، بل كان فاعلاً رئيسياً في قلب السلطة خلال واحدة من أكثر فترات تاريخ السودان حساسية، وهي حقبة نظام مايو بقيادة جعفر نميري. فقد تقلد مناصب وزارية رفيعة، أبرزها وزارة الخارجية، وكان أحد المهندسين الرئيسيين لاتفاقية أديس أبابا عام 1972 التي أنهت الحرب الأهلية الأولى.5 هذه التجربة منحت كتاباته النقدية اللاحقة، وأشهرها “السودان والنفق المظلم” و”النخبة السودانية وإدمان الفشل”، مصداقية استثنائية وعمقاً تحليلياً نادراً. لم تكن انتقاداته مجرد تنظير أكاديمي، بل كانت شهادة من الداخل، كشف فيها عن آليات عمل الدولة، وديناميكيات صنع القرار، والإخفاقات الأخلاقية والفكرية للنخبة التي كان هو نفسه جزءاً منها.

هذا التناوب بين موقعي “المشارك” و”الناقد” ليس مجرد تناقض في مسيرته، بل هو جوهر قوته الفكرية. فمعرفته الدقيقة بتفاصيل عمل النظام، كما وثقها في كتابه “السودان والنفق المظلم” الذي يُعتبر سيرة ذاتية له وللنظام المايوي في آن واحد 1، هي التي أعطت نقده اللاحق وزناً وثقلاً. لقد تحول من “المطلع” على أسرار الدولة إلى “الكاشف” لعيوبها، مما يجعل من دراسة تجربته دراسة حالة فريدة في العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة في سياق دولة ما بعد الاستعمار، ويقدم مفتاحاً لفهم لماذا ظل السودان، على حد تعبيره، “يدمن الفشل”.

الجزء الأول: التكوين الفكري والمهني: من أمدرمان إلى الساحة الدولية (19311969)

الفصل الأول: الجذور والتكوين الأول: التراث الصوفي والتعليم الحديث

وُلد منصور خالد في يناير 1931 بحي “الهجرة” في مدينة أمدرمان، العاصمة الوطنية للسودان، ونشأ في بيئة شكلتها تقاليد عريقة من العلم والتصوف.2 كان لجذوره العائلية أثر بالغ في تكوينه الفكري واللغوي؛ فجده من جهة أبيه هو الشيخ محمد عبد الماجد، المتصوف المالكي، وجده من جهة أمه هو الشيخ الصاوي عبد الماجد، الفقيه والقاضي الشرعي.7 هذا الإرث الصوفي لم يكن مجرد خلفية عائلية، بل كان رافداً أساسياً لثقافته، وهو ما تجلى لاحقاً في اهتمامه بتحقيق ونشر تراث جده في مؤلفه الضخم “الثلاثية الماجدية: صور من الأدب الصوفي السوداني”.2 وقد انعكست هذه النشأة الصوفية بشكل واضح على أسلوبه في الكتابة، الذي تميز بلغة أدبية أنيقة وبلاغة راقية، مما منح تحليلاته السياسية عمقاً فلسفياً وجمالياً فريداً.2

إلى جانب هذا التكوين التقليدي، انخرط منصور خالد في مسار التعليم الحديث الذي أرسته الإدارة الاستعمارية. تلقى تعليمه الأولي والمتوسط في أمدرمان، ثم التحق بمدرسة وادي سيدنا الثانوية، التي كانت تعتبر منارة للتعليم النموذجي في تلك الفترة.3 بعد ذلك، التحق بكلية الحقوق في جامعة الخرطوم، التي كانت آنذاك بوتقة تنصهر فيها النخب السودانية المستقبلية.2 في الجامعة، زامل شخصيات ستلعب أدواراً محورية في تاريخ السودان، مثل الدكتور حسن الترابي، مما يضعه ضمن جيل النخبة الأول الذي تشكل وعيه في فترة انتقالية حاسمة بين نهاية الاستعمار وبداية الدولة الوطنية.10 هذه الازدواجية في التكوين، بين عمق التراث الصوفي المحلي والانفتاح على المعرفة القانونية والسياسية الحديثة، شكلت اللبنة الأولى لشخصيته الفكرية المركبة.

الفصل الثاني: صياغة رؤية عالمية: التعليم في الغرب والعمل في المنظمات الدولية

بعد تخرجه من جامعة الخرطوم، لم يكتفِ منصور خالد بتعليمه المحلي، بل سعى بنهم إلى توسيع آفاقه الأكاديمية والمهنية على الساحة الدولية. حصل على درجة الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانيا المرموقة في الولايات المتحدة، ثم نال درجة الدكتوراه من جامعة باريس.1 لم تكن هذه التجارب الأكاديمية مجرد تحصيل علمي، بل كانت بمثابة انغماس في قلب الفكر القانوني والسياسي الغربي، مما صقل رؤيته للعالم ومنهجيته في التحليل.

عقب إتمامه لدراساته العليا، انطلق في مسيرة مهنية دولية متميزة، حيث عمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ثم في برنامج الأمم المتحدة للمساعدة الفنية في الجزائر، وانتقل بعدها للعمل في منظمة اليونسكو في باريس.1 كما عمل أستاذاً للقانون الدولي في جامعة كولورادو بالولايات المتحدة.1 هذه السنوات التي قضاها في الخارج لم تكن مجرد سلسلة من الوظائف، بل كانت عملية تكوينية عميقة. لقد عرّضته بشكل مباشر لنماذج الحكم العلماني، ومبادئ القانون الدولي، وتيارات الفكر الليبرالي واليساري.3

هذه التجربة الدولية الواسعة هي التي بلورت رؤيته العالمية (Cosmopolitan)، التي كانت تختلف جذرياً عن السياسات الضيقة القائمة على الهوية والانتماءات الطائفية التي كانت سائدة بين النخب السياسية في الخرطوم. لقد اكتسب القدرة على النظر إلى مشاكل السودان من منظور مقارن وأوسع، متجاوزاً الأطر المحلية المنغلقة. هذه الرؤية العالمية كانت السبب المباشر وراء أكبر نجاحاته، وعلى رأسها دوره في التوصل إلى اتفاق سلام مع الجنوب، وهو أمر تطلب تجاوزاً لسياسات الهوية المتصلبة في الشمال. وفي الوقت نفسه، كانت هذه الرؤية هي التي وضعته في حالة اغتراب فكري ومسار تصادمي حتمي مع المؤسسة السياسية التقليدية في الخرطوم.

الجزء الثاني: نظام مايو: رحلة في قلب الدولة (19691978)

الفصل الثالث: وزير الثورة: الشباب والتحديث (19691970)

جاء انضمام منصور خالد إلى حكومة جعفر نميري في أعقاب انقلاب 25 مايو 1969 في سياق سياسي معقد. فقبل أشهر قليلة من الانقلاب، كان خالد قد نشر سلسلة من المقالات في صحيفة “الأيام” تنبأ فيها بانهيار الحكم الديمقراطي، معللاً ذلك بالمشاحنات الحزبية، والعداء الطائفي، وعدم احترام الأحزاب لمبدأ استقلالية القضاء.3 من هذا المنطلق، يبدو أنه رأى في “ثورة مايو”، التي غلب على تشكيلها في البداية اليساريون والقوميون العرب، فرصة لتجاوز “عبث الأحزاب” وتأسيس دولة حديثة وفعالة.9

عندما عُرض عليه الانضمام للحكومة، اختار خالد حقيبة وزارة الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، وهو اختيار كشف عن اهتمامه بقضايا التحديث الاجتماعي والتنمية البشرية.6 خلال فترة توليه الوزارة التي استمرت لنحو عام (19691970)، أطلق طاقة الشباب السوداني في مشاريع ملموسة. شهدت وزارته نهضة كبيرة تمثلت في تفعيل دور الشباب في الخدمة الطوعية، مثل صيانة الطرق وبناء المدارس والمستشفيات، بالإضافة إلى إنشاء مراكز للشباب والتأهيل ومحو الأمية، وإقامة المهرجانات الثقافية.3 وقد أشاد من عملوا معه في تلك الفترة بحماسه وجديته ورؤيته الاستراتيجية، التي تجلت في إعداده عند مغادرته الوزارة وثيقة بعنوان “حصيلة عام واستشراف على المستقبل”، وهي خطوة غير مسبوقة دلت على تفكيره المؤسسي بعيد المدى.15

على الرغم من هذه البداية الواعدة، سرعان ما اصطدم خالد بالواقع السياسي المعقد للنظام الجديد. ففي أغسطس 1970، قدم استقالته، معللاً ذلك بأن “الصراعات الأيديولوجية قد أنهكت النظام” الذي كان يعيش على التوازنات الهشة بين التيارات المختلفة.3 تظهر هذه الاستقالة المبكرة عدم ارتياحه للتسييس المفرط وتفضيله لنهج التكنوقراط القائم على الإنجاز، وهو ما سيميز مسيرته اللاحقة.

الفصل الرابع: مهندس السلام الهش: اتفاقية أديس أبابا (1972)

بعد فترة وجيزة من استقالته الأولى، عاد منصور خالد إلى قلب السلطة في منصب أكثر حساسية وتأثيراً: وزير الخارجية. في هذا الموقع، لعب دوراً محورياً في تحقيق أحد أهم الإنجازات في تاريخ السودان الحديث، وهو التوصل إلى اتفاقية أديس أبابا في فبراير 1972، التي وضعت حداً للحرب الأهلية الأولى التي استمرت لسبعة عشر عاماً.5 لم يكن دوره بروتوكولياً، بل كان فاعلاً رئيسياً في المفاوضات، مستفيداً من خبرته الدولية وفهمه العميق لجذور القضية الجنوبية. وقد شهد له بذلك القادة الجنوبيون أنفسهم، ومنهم أبيل ألير، الذي وصفه بأنه “واسع الاطلاع، ومفكر غزير المعرفة، ويمتاز ببصيرة عملية، ولم يكن غريباً على مشكلة الجنوب”.17

أدرك خالد، بصفته وزيراً للخارجية، أن السلام لا يمكن أن يتحقق في قاعات التفاوض وحدها. لذلك، جعل من الدبلوماسية السودانية أداة لخدمة السلام والتنمية في الجنوب. فقد أعطت وزارته أولوية قصوى لمهمة تعمير الجنوب حتى قبل التوقيع الرسمي على الاتفاق، انطلاقاً من قناعة راسخة بأن أي اتفاق سلام لا تصاحبه خطة جادة لإعادة البناء والتنمية وتوطين اللاجئين والنازحين، مآله الفشل الحتمي.17 ومن هذا المنطلق، عمل على حشد الدعم الدبلوماسي والمادي من المجتمع الدولي لجنوب السودان، مستغلاً مناصبه الدبلوماسية لتسليط الضوء على الحاجة الماسة للتنمية كشرط أساسي لاستدامة السلام.9

تمثل اتفاقية أديس أبابا النقطة المحورية التي تدور حولها مسيرة منصور خالد السياسية والفكرية بأكملها. فدوره في صياغتها يمثل ذروة نجاحه كرجل دولة، واللحظة التي تمكن فيها من ترجمة رؤيته العالمية الليبرالية إلى سياسة دولة ناجحة. وفي المقابل، كان تفكيك نميري التدريجي لهذه الاتفاقية هو السبب المباشر والرئيسي لقطيعته النهائية مع النظام.2 هذه الخيانة لم تدفعه إلى المعارضة فحسب، بل قدمت له الدليل المادي والتجريبي الذي بنى عليه أطروحته الفكرية الكاملة حول “إدمان النخبة السودانية للفشل”. وهكذا، فإن فشل الاتفاقية التي كان هو مهندسها، أصبح بمثابة المصادقة المأساوية على صحة مجمل أعماله النقدية اللاحقة.

الفصل الخامس: الانفصال عن النظام: خيبة الأمل والرحيل (1978)

لم تدم فترة الوفاق بين منصور خالد ونظام نميري طويلاً بعد إنجاز اتفاقية أديس أبابا. فمع مرور الوقت، بدأت خلافاته مع الرئيس تتزايد، خصوصاً مع اتجاه نميري المتنامي نحو الحكم الفردي وتهميش المؤسسات. بلغت هذه الخلافات ذروتها في عام 1978، عندما قدم خالد استقالته من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، الحزب الحاكم آنذاك، معللاً قراره بأنه رأى أن الرئيس نميري قد “تغول على المؤسسية في الدولة”.3

ما ميز انفصال خالد عن النظام هو أنه لم يكن صامتاً. فقبل أن يغادر الحزب الحاكم، وجه انتقادات لاذعة لسياسات نميري عبر سلسلة من المقالات الجريئة التي جمعها لاحقاً في كتاب حمل عنواناً دالاً: “لا خير فينا إن لم نقلها”.1 يكشف هذا العمل عن شجاعته الفكرية واستعداده للنقد العلني حتى وهو لا يزال في موقع المسؤولية، مما يمثل سابقة في الحياة السياسية السودانية.

كانت هذه المرحلة بمثابة تحول حاسم في مسيرة منصور خالد، حيث انتقل من دور “المصلح من الداخل” إلى دور “الناقد من الخارج”. وقد مهدت هذه القطيعة الطريق مباشرة لأعماله النقدية الأكثر جذرية التي صدرت في الثمانينيات، مثل “السودان والنفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد” (1985) و”الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة” (1986)، والتي لم تكن مجرد نقد لسياسات محددة، بل كانت تشريحاً كاملاً لبنية النظام وتفكيكاً لأسس شرعيته.1

جدول 1: المناصب الوزارية والدبلوماسية الرئيسية لمنصور خالد (19691978)

المنصب

الفترة الزمنية

أبرز الإنجازات والمسؤوليات

وزير الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية

19691970

إطلاق برامج الخدمة الطوعية للشباب، إنشاء مراكز الشباب، وتفعيل الأنشطة الثقافية.3

وزير الشؤون الخارجية

19711975

لعب دوراً محورياً في التفاوض على اتفاقية أديس أبابا للسلام (1972) وحشد الدعم الدولي لإعادة إعمار الجنوب.5

وزير التربية والتعليم

19751976

تولى مسؤولية قطاع التعليم في فترة حاسمة من تاريخ السودان.5

مساعد رئيس الجمهورية

(فترة السبعينيات)

عمل كمساعد للرئيس نميري قبل استقالته النهائية من النظام.3

الجزء الثالث: الناقد في المنفى والتحالف (19782005)

الفصل السادس: تشريح الفشل: الإرث الفكري لمنصور خالد

بعد مغادرته السودان، كرس منصور خالد طاقته لمشروع فكري ضخم يهدف إلى تشخيص أسباب الأزمة السودانية المستعصية. لم تكن كتاباته مجرد ردود فعل سياسية، بل كانت تحليلات بنيوية عميقة للتاريخ والمجتمع والسياسة في السودان.

“السودان والنفق المظلم” (1985): يُعد هذا الكتاب شهادة تاريخية فريدة، لأنه كُتب بقلم شخص كان في قلب السلطة. قدم فيه خالد تحليلاً لاذعاً لعهد نميري، واصفاً إياه بـ”قصة الفساد والاستبداد”.1 اللافت في هذا الكتاب هو توقيت صدوره في يناير 1985، أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من انتفاضة أبريل الشعبية التي أطاحت بنظام نميري، مما منحه بعداً استشرافياً وجعله بمثابة بيان اتهام سبق سقوط النظام.1

“النخبة السودانية وإدمان الفشل” و “The Government They Deserve”: يمثل هذان العملان، الصادران بالعربية والإنجليزية، جوهر أطروحة منصور خالد الفكرية. في هذين الكتابين، يجادل خالد بأن أزمة السودان ليست أزمة موارد أو أنظمة حكم فحسب، بل هي في المقام الأول أزمة نخبة سياسية ومثقفة فشلت بشكل متكرر في بناء دولة وطنية حديثة وقادرة على تحقيق التنمية والعدالة لمواطنيها.2 وقد تناول هذا المفهوم بالنقد والتحليل، حيث أشار بعض المراجعين إلى قوة طرحه وجرأته في نقد الذات، بينما رأى آخرون أنه ركز بشكل مفرط على نقد الأفراد والشخصيات بدلاً من تحليل الديناميكيات المؤسسية التي تنتج هذا الفشل بشكل مستمر.8

“جنوب السودان في المخيلة العربية”: في هذا العمل المهم، يواصل خالد مشروعه في تفكيك السرديات المهيمنة. يتناول الكتاب كيفية تشكيل “الصورة الزائفة” لجنوب السودان في الوعي الشمالي والعربي، وكيف أدت هذه الصورة إلى “قمع تاريخي” وتهميش ممنهج للجنوبيين.5 يمثل الكتاب محاولة جريئة لتصحيح الذاكرة التاريخية وتقديم رؤية أكثر عدالة وإنصافاً للعلاقة المعقدة بين شطري السودان.

إن نظرة متعمقة على مؤلفات خالد تكشف عن وجود مشروع فكري واحد متسق ومستمر طوال حياته. فمنذ كتابه المبكر “حوار مع الصفوة” (1974)، مروراً بـ”النخبة وإدمان الفشل” (1993)، وصولاً إلى أعماله الأخرى، تظل الأطروحة المركزية ثابتة: الأزمات المزمنة في السودان تنبع من الإفلاس الفكري والأخلاقي للطبقة الحاكمة. يمكن إعادة تفسير مسيرته السياسية بأكملها من خلال هذا المنظور؛ كان انضمامه لنظام مايو محاولة لإصلاح هذه النخبة من الداخل، وكان تركه للنظام اعترافاً بفشل تلك المحاولة، وكان انضمامه لاحقاً لجون قرنق بحثاً راديكالياً عن نخبة بديلة. وبهذا المعنى، فإن كتبه لم تكن سوى المبرر النظري لرحلته السياسية.

الفصل السابع: التحالف الجدلي: مثقف شمالي في الحركة الشعبية لتحرير السودان

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية السودانية، انضم منصور خالد في منتصف الثمانينيات إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق، والتي كانت تخوض حرباً ضد الحكومة المركزية في الخرطوم.3 من منظور المؤسسة السياسية الشمالية، كان هذا القرار بمثابة خيانة. لكن من منظور مسار خالد الفكري، كان نتيجة منطقية، وإن كانت جذرية.

فبعد أن أثبت في كتاباته بشكل منهجي أن النخبة الشمالية غير قادرة هيكلياً على الإصلاح وأنها “مدمنة للفشل” 1، لم يعد يرى أملاً في التغيير من داخلها. في المقابل، لم تكن الحركة الشعبية في ذلك الوقت حركة انفصالية، بل كانت تدعو إلى بناء “سودان جديد” يقوم على مبادئ العلمانية والمساواة والديمقراطية 24، وهي نفس المبادئ التي دافع عنها خالد طوال حياته. لذلك، كان انضمامه للحركة بمثابة محاولته الأخيرة لإنقاذ فكرة السودان الموحد، من خلال التحالف مع القوة السياسية الوحيدة التي كان يرى أنها تقدم بديلاً حقيقياً لنموذج الدولة الفاشل الذي كرسته نخب الخرطوم.

عمل خالد كمستشار سياسي لجون قرنق، وساهم بفكره وخبرته الدبلوماسية في صياغة رؤية “السودان الجديد” وتقديمها للعالم.3 وقد حافظ على علاقات ودية وثيقة مع قرنق، وبعد وفاته، مع خليفته سلفا كير، وحظي باحترام وتقدير كبيرين في جنوب السودان، لدرجة أن حكومة جنوب السودان أمرت بتنكيس الأعلام حداداً عليه عند وفاته، في دلالة رمزية على عمق العلاقة التي ربطته بقضيتهم.5

جدول 2: المؤلفات الكبرى لمنصور خالد

العنوان الأصلي (عربي/إنجليزي)

ترجمة العنوان

سنة النشر

الموضوع الرئيسي

حوار مع الصفوة

Dialogue with the Elite

1974

مجموعة مقالات نقدية مبكرة حول قضايا الفكر والسياسة والمجتمع في السودان.1

لا خير فينا إن لم نقلها

No Good in Us If We Don’t Say It

1980

مقالات نقدية لاذعة لنظام نميري كُتبت من داخل النظام قبل الانفصال عنه.1

Nimeiri and the Revolution of DisMay

نميري وثورة الخيبة

1985

تحليل نقدي شامل لتجربة نظام مايو وإخفاقاته.28

السودان والنفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد

Sudan and the Dark Tunnel: The Story of Corruption and Tyranny

1985

شهادة من الداخل على فترة حكم نميري، صدرت قبل أشهر من سقوطه.1

الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة

The False Dawn: Nimeiry and the Distortion of Sharia

1986

نقد لتطبيق نميري للشريعة الإسلامية في سنوات حكمه الأخيرة.7

The Government They Deserve

الحكومة التي يستحقونها

1990

تحليل لدور النخبة في التطور السياسي والاقتصادي للسودان.5

النخبة السودانية وإدمان الفشل

The Sudanese Elite and the Addiction to Failure

1993

العمل الأكثر شهرة لخالد، ويقدم أطروحته المركزية حول مسؤولية النخبة عن أزمات السودان.1

جنوب السودان في المخيلة العربية

South Sudan in the Arab Imagination

2000

تفكيك للصورة النمطية للجنوب في الوعي الشمالي والعربي.1

War and Peace in Sudan: A Tale of Two Countries

الحرب والسلام في السودان: قصة بلدين

2003

سرد تحليلي لتاريخ الصراع الطويل في السودان.5

الجزء الرابع: الإرث والأسئلة المفتوحة

الفصل الثامن: الإرث الفكري لرجل ليبرالي علماني

يقوم فكر منصور خالد السياسي على أسس ليبرالية وعلمانية واضحة، وهو ما جعله صوتاً فريداً ومثيراً للجدل في المشهد السياسي السوداني. تمحور مشروعه الفكري حول نقد جذري لسياسات الهوية، سواء كانت قائمة على العرق أو الدين، ودعا باستمرار إلى تأسيس دولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة المتساوية والفصل بين الدين والدولة.14 ومن أبرز سمات فكره قدرته على تجاوز الثنائيات التقليدية التي هيمنت على الخطاب السياسي، مثل الانقسام بين اليمين واليسار، أو بين العسكريين والمدنيين. فقد انتقد كلا الطرفين بحدة، معتبراً أن أزمة السودان أعمق من هذه التصنيفات، وتكمن في “جوهر الحكم” نفسه وغياب الرؤية الاستراتيجية لدى النخب كافة.14

اتسم منهجه النقدي بما يمكن وصفه بـ”الذاكرة المضادة”، وهو مصطلح استخدمه بعض المحللين لوصف كتاباته.31 كان هدفه دائماً هو تقديم سردية بديلة ومغايرة للسرديات الرسمية والشعبوية السائدة، حتى لو كانت هذه السردية صادمة أو غير مقبولة لدى الكثيرين. لم يكن يكترث بالرأي العام بقدر ما كان يكترث بما يعتقد أنها الحقيقة، وكان يرى أن مهمة المفكر هي إثارة الحوار العلمي الجاد وتحدي المسلمات الراسخة.31 لقد كان فكره بمثابة مرآة قاسية تعكس عيوب الذات الوطنية، في محاولة لتحفيز عملية نقد ذاتي طال انتظارها.

خاتمة: صوت نبوئي في أمة منقسمة

عند إعادة قراءة أعمال منصور خالد اليوم، في ظل الواقع المأساوي الذي يعيشه السودان، من الصعب تجاهل الطابع “النبوئي” لتحليلاته. لقد تنبأ بانقلاب مايو 1969 قبل وقوعه 3، وأصدر كتابه الذي يشرح أسباب انهيار نظام نميري قبل أشهر قليلة من سقوطه الفعلي.1 والأهم من ذلك، أن أطروحته الكاملة حول “إدمان النخبة للفشل” وعجزها عن حل قضية الهوية ومعالجة مظالم الأطراف، يمكن قراءتها كاستشراف طويل المدى للمسار الذي أدى في نهاية المطاف إلى انفصال جنوب السودان في 2011 واستمرار الحروب في أجزاء أخرى من البلاد.

إن هذا النمط من التحليلات التي ثبتت صحتها لاحقاً يشير إلى أن أعماله يجب أن تُقرأ ليس فقط كتحليل تاريخي، بل كشكل من أشكال البصيرة السياسية. إن إطاره التحليلي، الذي ركز على العيوب الهيكلية العميقة للدولة السودانية ونخبها الحاكمة، منحه قدرة فريدة على توقع النتائج المنطقية لأفعالهم. لذلك، فإن إرثه الأكبر هو إرث شخصية حذرت مراراً وتكراراً من الكارثة القادمة، لكن تحذيراتها قوبلت بالتجاهل إلى حد كبير، مما أدى إلى عواقب وخيمة على الأمة.

يبقى إرث منصور خالد معقداً ومحط تقييمات متباينة: هل كان مصلحاً فشلت محاولاته، أم مثقفاً طوباوياً بعيداً عن الواقع، أم واقعياً أدرك قبل غيره استحالة بناء الدولة على أسسها القائمة؟ بغض النظر عن الإجابة، تكمن أهميته اليوم ليس في الحلول التي قدمها، بل في الأسئلة الجذرية التي طرحها بجرأة وشجاعة، وهي الأسئلة التي ما زالت تواجه السودان، وتحدد مصيره، حتى يومنا هذا.

المراجع

  1. منصور خالد ويكيبيديا, accessed August 21, 2025, https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1_%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF
  2. رحيل وزير خارجية السودان الأسبق منصور خالد الشرق الأوسط, accessed August 21, 2025, https://aawsat.com/home/article/2249061/%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%82%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF
  3. منصور خالد | الموسوعة الجزيرة نت, accessed August 21, 2025, https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2014/10/27/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF2
  4. منصور خالد.. “ملاحظات وأسئلة بدون إجابات” الجزيرة نت, accessed August 21, 2025, https://www.aljazeera.net/culture/2014/6/6/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B8%D8%A7%D8%AA%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9%D8%A8%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%A5%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA
  5. Mansour Khalid Wikipedia, accessed August 21, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Mansour_Khalid
  6. en.wikipedia.org, accessed August 21, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Mansour_Khalid#:~:text=He%20worked%20in%20the%20United,Minister%20(1971%E2%80%9375).
  7. منصور خالد (سياسي سوداني) المعرفة, accessed August 21, 2025, https://www.marefa.org/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1_%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF_(%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A_%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A)
  8. النخبة في مواجهة الذات : نقد السرديات المفقودة في تحليل منصور خالد …, accessed August 21, 2025, https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AE%D8%A8%D8%A9%D9%81%D9%8A%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D8%AA%D9%86%D9%82%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D8%A7%D9%84/
  9. تلك شهادتي | الدكتور منصور خالد، رجل السياسة والفكر السوداني YouTube, accessed August 21, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=TocWfixPgXc
  10. وفاة المفكر السوداني منصور خالد النيلين, accessed August 21, 2025, https://www.alnilin.com/13123630.htm
  11. فيلم وثائقي (منصور خالد قلم ينبض) | KACE, accessed August 21, 2025, https://www.kacesudan.org/%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82%D9%8A%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%AA%D9%85%D8%B9%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%84%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%AA%D9%86%D8%A7/
  12. الدكتور منصور خالد (19312020) مجلة الكلمة, accessed August 21, 2025, http://alkalimah.net/Articles/Read/21189
  13. مذكرات منصور خالد (جيل الخيبات) الحلقة الثانية الوراق YouTube, accessed August 21, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=iwAhbiPiaeU
  14. ولعـلَّ مـن املهـم مـع رحيـل الدكتـور منصـور خالـد بقلم: علي أبو إد, accessed August 21, 2025, https://www.tasees.org/wpcontent/uploads/2023/10/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF.pdf
  15. د. منصور خالد” حصيلة عام وأستشراف على المستقبل” موقع سوداني …, accessed August 21, 2025, https://www.sudanpost.info/%D8%AF%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AD%D8%B5%D9%8A%D9%84%D8%A9%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%A3%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%B9%D9%84%D9%89%D8%A7%D9%84/
  16. السودان والنفق المظلم by منصور خالد | Goodreads, accessed August 21, 2025, https://www.goodreads.com/en/book/show/18306063
  17. أطروحة منصور خالد.. السلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة! الحركة الشعبية …, accessed August 21, 2025, https://splmn.net/%D8%A3%D8%B7%D8%B1%D9%88%D8%AD%D8%A9%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF/
  18. ذاكرة العربية | وزير الخارجية السوداني الأسبق منصور خالد الجزء الثاني YouTube, accessed August 21, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=g0yYtQQ193U
  19. Books by منصور خالد (Author of النخبة السودانية وإدمان الفشل), accessed August 21, 2025, https://www.goodreads.com/author/list/5555167._
  20. Mansour Khalid Archives Alternative Radio, accessed August 21, 2025, https://www.alternativeradio.org/speaker/mansourkhalid/
  21. السودان.. نخبة تدمن الفشل وتنتقده | Ultra Sudan الترا سودان, accessed August 21, 2025, https://ultrasudan.ultrasawt.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%86%D8%AE%D8%A8%D8%A9%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B4%D9%84%D9%88%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%87/%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D9%86%D8%B9%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9
  22. The Government they Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, by MANSOUR KHALID. 480 pages. Kegan Paul In Cambridge University Press, accessed August 21, 2025, https://www.cambridge.org/core/services/aopcambridgecore/content/view/E3054FBA0A3E9CA76A6A3AA31218CBF7/S0026318400024615a.pdf/thegovernmenttheydeservetheroleoftheeliteinsudanspoliticalevolutionbymansourkhalid480pageskeganpaulinternationallondonandnewyork1990dollar4995.pdf
  23. منصور خالد | الجزيرة نت, accessed August 21, 2025, https://www.aljazeera.net/2004/10/03/%D9%85%D9%86%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF
  24. BOOK NOTES, accessed August 21, 2025, https://academic.oup.com/afraf/articlepdf/89/354/141/58873/89354141c.pdf
  25. Sudan Mourns Great Thinker Mansour Khalid| Sudanow Magazine, accessed August 21, 2025, https://sudanowmagazine.net/page.php?subId=10&Id=997
  26. Flags to fly at halfmast to honour Mansour Khalid, Kiir orders Radio Tamazuj, accessed August 21, 2025, https://www.radiotamazuj.org/en/news/article/flagstoflyathalfmasttohonourmansourkhalidkiirorders
  27. en.wikipedia.org, accessed August 21, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Mansour_Khalid#:~:text=Mansour%20Khaled%20maintained%20cordial%20relations,his%20honor%20when%20he%20died.
  28. List of books by author Mansour Khalid, accessed August 21, 2025, https://www.betterworldbooks.com/author/mansourkhalid/1139031
  29. Books by Mansour Khalid (Author of النخبة السودانية وإدمان الفشل), accessed August 21, 2025, https://www.goodreads.com/author/list/353171.Mansour_Khalid
  30. نقاش صريح ونادر مع الدكتور منصور خالد، أحد أشهر وجوه السياسة في تاريخ السودان الحديث, accessed August 21, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=KCd1o_Vltjc
  31. منصور خالد: لمن تعزف مزاميرك يا داؤود؟ .. بقلم: خالد موسي دفع الله سودارس :, accessed August 21, 2025, https://www.sudaress.com/sudanile/91754
  32. مذكرات الدكتور منصور خالد الحلقة الأولى الوراق YouTube, accessed August 21, 2025, https://www.youtube.com/watch?v=GcGrjexLz9w

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.