ياسر عرمان
يشرفني أن أشارك في مؤتمر السلام العالمي الخامس في أوسيكوبانكي، أود أن أشكر منظمي هذا المؤتمر، وبشكل خاص يوانا فاساما وآلان ريد الصديق القديم للسودان وجنوب السودان على دعوتي إلى المشاركة في هذه الجلسة لمناقشة “الطريق من اليأس إلى السلام في السودان وجنوب السودان”. ويسعدني أن أكون هنا مع بيكا هافيستو، وزير الخارجية الفنلندي والممثل الخاص للاتحاد الأوروبي للسودان سابقاً وصديق عظيم للسودان. كما أود أن أُثَمِّن العمل المستمر، لما يقارب العقدين مع صديقتي إستر اسبريغ. سيكون تركيزي في الأساس على السودان.
لقد شهدت وشاركت على مستوى القيادة في حربين سابقتين:
- الحرب الأولى بدأت في 1983، وانتهت في 2005 بتوقيع اتفاقية السلام في نيفاشا.
- الحرب الثانية بدأت في يونيو 2011، ووقعنا اتفاقية جوبا للسلام في 2020 بعد ثورة ديسمبر.
كنت مؤمناً بالكفاح المسلح، لكنني لم أعد أؤمن به كوسيلة لتحقيق الأهداف السياسية. بل أصبحت أؤمن بالكفاح السلمي الجماهيري غير العنيف لتحقيق ذات الأهداف السياسية. لقد تعلمت كثيراً من التجربتين، وأنا اليوم ملتزم بوسائل النضال السلمي مع زملائي في التيار الثوري الديمقراطي للحركة الشعبية (SPLMRDC) والمظلة الأوسع لتحالف القوى الثورية الديمقراطية (صمود).
الوضع في السودان يحتاج إلى تضامنكم واهتمامكم الكبير، خاصة وأن حرب السودان أصبحت حرباً منسية.
حرب 15 أبريل 2023 في السودان:
لم تأتِ حرب 15 أبريل 2023 من فراغ، بل هي استمرار وتتويج للحروب السابقة في السودان منذ أغسطس 1955، والتي بدأت في جنوب السودان، وامتدت إلى النيل الأزرق، وجبال النوبة، وشرق السودان، ودارفور. لكن الاختلاف الجوهري في هذه الحرب أنها اندلعت من المركز لا من الأطراف.
تثير حرب 15 أبريل أسئلة قديمة وجديدة عن جذور المشكلة السودانية، والتي تعود إلى أزمة وطنية مركبة الأبعاد ناتجة عن غياب مشروع وطني ديمقراطي قادر على خلق قواسم اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية مشتركة تعالج التنوع التاريخي والمعاصر للسودان، وتبني دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على المواطنة بلا تمييز، بما يفتح الباب أمام سلام دائم.
الكارثة الإنسانية وحماية المدنيين:
يشهد السودان أكبر كارثة إنسانية في العالم حالياً:
- حوالي 15 مليون شخص بين نازح ولاجئ خارج السودان.
- نحو نصف مليون ما بين قتيل وجريح ومفقود.
- أعداد النازحين واللاجئين تفوق نظيراتها في أوكرانيا وغزة مجتمعتين.
دخلت الحرب عامها الثالث مخلّفة دماراً هائلاً في البنية التحتية، بما في ذلك المؤسسات الصحية والتعليمية، ونقصاً حاداً في الغذاء والدواء. كما دمّرت النسيج الاجتماعي، وأشعلت الكراهية بين المكونات المجتمعية المختلفة.
السودان يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى وقف إنساني طويل لإطلاق النار، وفتح الممرات الإنسانية، ويحمي المدنيين، ويضع بعثة سلام على الأرض لمراقبة هذا الوقف. ويجب أن يكون وقف إطلاق النار الإنساني مدخلاً للتوجه نحو السلام، وجزءاً لا يتجزأ من خطة شاملة تؤدي إلى حل الكارثة الإنسانية والعملية السياسية كحزمة واحدة.
السلام علي يحتاجه السودان:
على مدى العقود الأربعة الماضية، عاش الشعب السوداني حلولاً جزئية واتفاقيات سلام مؤقتة فشلت في معالجة جذور الأزمة أو تحقيق سلام دائم وعدالة وديمقراطية ومواطنة بلا تمييز.
أهم هذه الاتفاقيات كانت اتفاقية نيفاشا للسلام في 2005، التي أُطلق عليها اسم “اتفاقية السلام الشامل”، لكنها لم تكن شاملة بالفعل، ولم تحقق سلاماً دائماً لا في شمال أو جنوب السودان.
السودان يحتاج اليوم إلى صيغة جديدة تحقق إطاراً استراتيجياً يعالج المظالم التاريخية، ويضع حداً لكل أشكال التهميش، بما في ذلك التهميش على أساس النوع (النوع الاجتماعي/المرأة). ولأن الحرب الحالية اندلعت من المركز، فمن الضروري أن تبدأ المعالجة من قضايا الحكم والديمقراطية والعدالة والمواطنة بلا تمييز في المركز نفسه.
أما القوات المسلحة السودانية (SAF) والدعم السريع (RSF) فهما يتبنيان خطابات متناقضة: الجيش يطلق عليها “حرب الكرامة”، بينما تصفها قوات الدعم السريع بأنها “حرب هدم دولة 1956”. لكن الحقيقة أن الطرفين يقاتلان من أجل السلطة والموارد، ومشروعيهما معاً يقودان إلى الديكتاتورية والتسلط، ولا بوجدان الشعب السوداني.
الذي يمكن أن يوحد السودانيون هو خطاب ثورة ديسمبر والمطالب التاريخية للثورات السودانية منذ 1924 في المدن والأرياف.
الحركة الإسلامية، الدولة المختطفة والإرهاب:
لعب حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية دوراً رئيسياً في اندلاع هذه الحرب، بعد أن أطاحت بهم ثورة سلمية فتحت الباب لمرحلة انتقالية ديمقراطية حظيت بدعم الشعب السوداني والمجتمع الدولي.
خلال إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى أُزيل اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، واستعادت البلاد علاقاتها مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وبدأت التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وأصبح السودان آنذاك مساهماً في الاستقرار ومشاركاً في السلام الإقليمي والدولي.
لكن التيار الإسلامي داخل وخارج الأجهزة الأمنية دفع باتجاه الانقلاب وحرب 15 أبريل لاستعادة سيطرته على السابقة على الدولة، والتي استمرت أكثر من ثلاثة عقود.
لهذا، يجب على الإقليم والمجتمع الدولي تصنيف المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية السودانية كمنظمة إرهابية. فقد كانوا وراء جرائم كبرى: من استضافة أسامة بن لادن، والمشاركة في تفجيرات سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا، ومحاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، والهجوم على المدمرة الأميركية “كول” في اليمن عام 2000، والمشاركة في تدمير برج التجارة العالمي في نيويورك وغيرها.
الحركة الإسلامية السودانية جماعة فاشية بنت نظام تمييزياً وقمعياً، وقادت البلاد إلى العزلة والإرهاب. أسقطتها ثورة شعبية، ولم ينته خطرها بعد فهي ما تزال عقبة أمام السلام والديمقراطية.
بناء جيش وطني مهني واحد:
أحد أكبر تحديات السلام هو تشرذم القطاع الأمني ووجود عشرات الميليشيات والجيوش الموازية التي تنتهك حقوق المواطنين، وتوسع النفوذ العسكري على حساب المدنيين، وتنهب موارد البلاد.
لا يمكن تحقيق سلام دائم أو استقرار أو ديمقراطية من دون بناء جيش وطني مهني واحد.
السودان وموقعه الجيوسياسي في البحر الأحمر والمنطقة:
يقع السودان في موقع استراتيجي على البحر الأحمر، ويربط بين القرن الإفريقي ومنطقة الساحل، التوتر الذي يعم البحر الأحمر والقرن الأفريقي والساحل واضح، وحرب السودان ستترك آثاراً سلبية كبيرة على استقرار هذه المناطق.
بالمقابل، تحقيق السلام في السودان سينعكس إيجاباً على أجندة السلام الإقليمية والدولية.
خمسة عشر مليون وحق الإقامة:
إن لم يتوفر للنازحين واللاجئين السودانيين حق الإقامة في أرضهم والعيش داخل وطنهم، فسوف يبحثون عنه خارجه. وهذا يزيد أعباء الدول المجاورة، وسيدفع بعضهم للبحث عن فرص في أوروبا وأميركا وغيرها. لذلك، فإن معالجة قضايا الهجرة بشكل جذري يمر عبر تحقيق السلام في السودان.
تضارب المصالح الإقليمية والدولية:
كل من طرفي الحرب يحظى بدعم إقليمي ودولي، وتصلهم الأسلحة الحديثة مثل الطائرات المسيّرة. وهذا يتطلب جهوداً لتنسيق المواقف الإقليمية والدولية لوقف وإنهاء الحرب.
تُعقد الآمال على الاجتماع المقترح في واشنطن بمشاركة بعض الدول الإقليمية كنقطة انطلاق نحو خارطة طريق قوية تشمل لاحقاً شركاء آخرين. يجب استغلال تأجيل هذا الاجتماع لمعالجة النواقص وتعزيز العملية السلمية، ومن أبرز هذه القضايا كيفية توحيد مواقف اللاعبين الإقليميين والدوليين مع الجهد الأميركي.
الوساطات والملكية الوطنية للسلام:
المبادرة الأميركية والمبادرات الأخرى تبرز أهمية إشراك السودانيين أنفسهم في تقرير مستقبل بلدهم. فالسلام المستدام والديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن يُبنيا من دون انخراط أصحاب المصلحة من المدنيين الداعمين للديمقراطية منذ البداية. إن إشراكهم سيعزز العملية، ويكسبها شرعية لدى الشعب السوداني، الذي هو الوصي الوحيد على مستقبله.
السودان بلد يملك إمكانات هائلة، وقدّم شعبه تضحيات جسيمة سعياً وراء أحلامه في السلام والعدالة ووحدة الوطن وصيغة جديدة للحكم، يستحق هذا الشعب كل الدعم من محبي السلام والديمقراطية والمساواة في العالم، لبناء السودان الجديد.
أكرر شكري لهذه الفرصة المهمة للتحدث إليكم.
*نص الورقة التي قدمها ياسر عرمان في مؤتمر السلام العالمي الخامس أوسيكوبانكي/فنلندا (1316 أغسطس 2025)
المصدر: صحيفة التغيير