خالد كودي

نشرت الأستاذة رشا عوض في مقالًا بعنوان: ميثاق تأسيس.. تقرير مصير أم قرار انفصال؟

والحقّ أن المقال، على الرغم من حرصه على التحذير من مخاطر الانقسام، جاء مشحونًا بالتباساتٍ منهجيةٍ وتشويشٍ مفاهيميٍّ يردّد كثيرًا من وصايا النخب التقليدية التي عجزت عن إنقاذ السودان من أزماته المتطاولة.

تقوم أطروحة المقال على ثلاث ركائز مرتبكة ومشوشة

الخلط بين حق تقرير المصير و”قرار الانفصال” باعتباره حتميّةً تُفرض بالقوة المسلحة؛

الارتهان لخبرة النخب المركزية التي أثبتت التجربة التاريخية إخفاقها الذريع في بناء وحدة جاذبة أو عقد سياسي جامع؛

النزعة الوصائية التي ترى أنّ شعوب الهامش عاجزة بنيويًا عن إنجاز ما قصرت عنه تلك النخب، وكان حقها في تقرير مصيرها لا يُمارَس إلا بإذن وإجازة من المركز.

هذا الردّ يتصدّى لتفكيك تلك الركائز علميًا وقانونيًا وتاريخيًا، مبيّنًا أنّ جذر الأزمة يكمن في الدولة السودانية القديمة بتركيبتها الإقصائية، وأنّ تقرير المصير حقٌّ أصيلٌ سابق على كلّ الخيارات السياسية. كما يؤكد أنّ وظيفة القوى السياسية والإعلامية ليست التحكّم في إرادة المجتمعات المحلية أو مصادرتها، بل بناء وحدةٍ جاذبةٍ حقًا، تستند إلى عقدٍ اجتماعيٍّ جديد: علمانيّ، ديمقراطي، يضمن المساواة والعدالة التاريخية، ويحرّر مستقبل السودان من علل الماضي وأثقاله.

أولًا: تقرير المصير حقّ قانوني مُلزِم، لا “امتيازًا” تجود به النخب

تقرِّر المادة (1) من العهدين الدوليين (المدني والسياسي؛ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي) أنّ لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها… وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي، وهو حكم سابق ومؤسِّس لبقية الحقوق، كما فسّرت ذلك اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في التعليق العام رقم 12.

ويؤكِّد الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، في المادة (20)، أنّ “للشعوب الحق في الوجود والحق غير القابل للتصرف في تقرير مصيرها”، وهو نصٌّ إقليميٌّ ملزِم لدول القارة.

كما رسّخ قرار الجمعية العامة 1514 (1960) مبدأ إنهاء الاستعمار وتقرير المصير بوصفه قاعدة موجِّهة لنظام ما بعد الاستعمار.

النتيجة: ليس لأحد كاتبةً كانت أو حزبًا أو حكومة مركزية أن يُصادِر أصل الحق، أو يُشوِّش عليه بمقدمات ترهيبية مثل القول إن (“كل تقرير مصير = انفصال”). الواجب الأول هو الإقرار بالحق، ثم العمل سياسيًا وأخلاقيًا على جعل الوحدة خيارًا جاذبًا.

ثانيًا: الدرس السوداني القريب سقوط النخب وفشل مشروع “الوحدة الجاذبة”

نصّت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا 2005) بجلاء على استحقاقٍ تاريخي: تمكين شعب جنوب السودان من تقرير مصيره بعد فترة انتقالية تُبنى خلالها وحدةٌ “جاذبة” تقوم على العدالة والمواطنة المتساوية. غير أنّ النخب السودانية، بيمينها ويسارها، فشلت فشلًا ذريعًا في الوفاء بهذا الالتزام. لم تُنشأ مؤسسات جادّة، ولم تُبنَ سياسات عادلة، ولم تُقدَّم أي ضمانات حقيقية تجعل الوحدة خيارًا يستحق البقاء، ولم تهزم المؤتمر الوطني ومؤسساته الفاشية. وعندما جاء استفتاء 2011، صوّت الجنوبيين بنسبة ساحقة لصالح الاستقلال، في حكمٍ تاريخي لا يقبل الالتفاف أو التبرير.

الحقيقة الساطعة أنّ الذي دفع الجنوبيين نحو الانفصال لم يكن “ميتافيزيقا البندقية” كما تحاول بعض الأقلام الإيحاء، بل عجزٌ بنيويّ متأصّل في الدولة المركزية، وتواطؤ نخبها المدنية والعسكرية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، التي انشغلت بالمناورات والامتيازات بدلًا من تأسيس عقدٍ وطني عادل. هذه النخب لم تفشل فقط في جعل الوحدة جاذبة، بل فشلت كذلك في مواجهة تنظيم الإخوان المسلمين الذي عمل بوعي وإصرار لتغذية الانفصال واستدامة الانقسام. بذلك أثبتت النخب عجزها الأخلاقي قبل السياسي، واتكاليتها وكسلها الفكري، وانعدام قدرتها على تقديم بديل تاريخي.

إن تحميل “حق تقرير المصير” وزر هذه الخطيئة التاريخية قلبٌ للحقائق، ومحاولة بائسة لإخفاء مسؤولية النخب التي كانت وما زالت عاجزة عن صناعة وطن يتساوى فيه الجميع.

ثالثًا: الوصاية بوصفها مشكلة معرفية وأخلاقية

يُحذِّر فرانتز فانون من استبدال الاستعمار الخارجي بوصاية “برجوازية وطنية” تواصل أنماط الهيمنة باسم الوحدة؛ ويُذكِّرنا حنة آرندت بأن “الحق في أن يكون لك حقوق” لا يقوم إلا على عضويةٍ سياسيةٍ متساوية، لا على منه حارسٍ مركزي. إنّ تصوير “الهامش” كموضوعٍ للإنقاذ من نفسه، لا كذاتٍ سياسيةٍ عاقلةٍ صاحبة حق، هو إعادة إنتاجٍ لتراتبيةٍ أخلاقيةٍ ما بعد استعمارية، ف… حيلك يا أستاذة رشا، ما أنجزته تأسيس الآن لم تنجزه النخب من سبعين عاماً!

رابعًا “البندقية” بين الضرورة والغاية تفكيك مغالطة الاختزال.

تسقط المقالة في خلطٍ جوهري، حين تُساوي بين وجود السلاح في حربٍ دائرة وبين تحويله إلى عقيدةٍ للحكم والسيطرة. فالحق في تقرير المصير سابق على الأطراف وموازين القوة، ولا يُلغيه وجود السلاح، ولا يُختزل في من يحمله. ممارسته ممكنة ومشروطة بإجراءاتٍ معروفة عالميًا: وقف إطلاق نار شامل، ترتيبات أمنية انتقالية، توسيع قاعدة التمثيل المدني، وإشراف إقليمي أو أممي على أيّ استفتاء حر كما جرى في تجارب حيّة مثل تيمور الشرقية (1999) وإريتريا (1993.

إنّ إنفاق الجهد في شيطنة الحق لمجرّد أنّ أحد أطراف النزاع مسلّح هو قلبٌ للقاعدة بالاستثناء، وإمعانٌ في مصادرة إرادة الشعوب عبر خطاب التخويف. وللتذكير، أكّدت اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في قضية كاتانغا ضد زائير (1995) أنّ أشكال تقرير المصير تشمل الداخلي والخارجي معًا، وأنّ الانفصال الخارجي لا يُمارس إلا في ظروف استثنائية جسيمة. وهذا ليس نفيًا للحقّ، بل تنظيمًا لأعماله وفق معايير واضحة، بينما يظلّ الأصل ثابتًا وملزمًا.

خامسًا: تجارب الأمم حين تُصان الوحدة باحترام الحق لا بمصادرته

اسكتلندا (2014): مُنِح الحق وهُزِم مشروع الانفصال ديمقراطيًا (55%) لأنّ الوحدة قُدِّمت بوصفها خيارًا معقولًا تحت سقف قواعد لعبة محترمة كيبيك/كندا: رسّخت المحكمة العليا (1998) و”قانون الوضوح” لاحقًا منطقًا مفاده: الاعتراف بحق تقرير المصير، مقابل اشتراط سؤالٍ واضحٍ وأغلبيةٍ واضحة ومفاوضات دستورية أي حماية الوحدة بالشرعية لا بإنكار الحق.

كوسوفو (رأي محكمة العدل الدولية 2010): قرّرت المحكمة أنّ إعلان الاستقلال من جانب واحد لا ينتهك القانون الدولي بذاته، ما دام لا توجد قاعدة تحظره فتبقى السياسة والشرعية الإجرائية هما ساحة الحسم.

الخلاصة المقارنة: في كل الحالات الجادّة، الاعتراف المبدئي بالحق هو نقطة البداية؛ فإن نجحت الدولة ونخبها في جعل الوحدة جاذبة اقتصاديًا ومؤسسيًا وثقافيًا انتصرت بالاقتراع لا بالقمع. وإن فشلت، فالمشكلة في عقدها السياسي لا في وجود الحق، وليكن هذا واضحا لرشا وغيرها.

سادسًا: أين مكمن العطب في مقالة رشا عوض؟

١/ إزاحة مركز النقاش: تُحاكم المقالة “الميثاق التأسيسي” من زاوية “هيمنة بندقية”، وتتجاهل أنّ نصوصًا مثل العلمانية، جيش جديد مهني، عدالة تاريخية، حكم مدني وانتخابات هي رافعات مؤسسية لا تتحقق إلا بنزع القداسة عن الدولة القديمة وتفكيك اقتصاد الامتياز فيها وهو بالضبط ما عجزت عنه النخب لعقود. (درس نيفاشا حاضر)

٢/ وصايةٌ على الهامش: تفترض المقالة أنّ المجتمعات في دارفور/كردفان “غير قابلة للتوحّد على خيار ديمقراطي”، لأنّ جزءًا من قواها المسلحة متنازع عليه أخلاقيًا. هذا تعميمٌ معياري يساوي بين المجتمع وقوة بعينها، ويُسقِط حقّ السكان المدنيين في اختيار مصيرهم وفق شروطٍ نظيفة.

٣/ تأجيل الحق باسم الوحدة: تُعيد المقالة إنتاج خطاب “الوحدة أولًا ثم الحقوق”، بينما يجزم القانون الدولي أنّ تقرير المصير شرطٌ لفعالية بقية الحقوق؛ أي أنّ طريق الوحدة يمرّ عبر دسترة المساواة لا عبر تعليق الحق.

٤/ إغفال مسؤولية النخب المركزية والإعلام: منذ 1989 وصولًا إلى موجتي 2019 و2021، عجزت قوى مدنية واسعة وأحيانًا تواطأت عن بناء جبهةٍ ثقافية/إعلامية تُهزم فيها سرديّات الإسلاميين، وتحمي فيها استحقاقات الثورة والدستور؛ فتُرك المجتمع بلا سردية جامعة، وبلا مؤسساتٍ قادرة على “جعل الوحدة جاذبة”. هذا سجلٌّ تاريخيٌّ لا تمحوه المزايدات اللاحقة.

سابعًا: ما العمل؟ خارطةٌ عمليةٌ بلا وصاية

١/ الاعتراف المبدئي بالحق

ينبغي لكلّ الفاعلين ومنهم الأستاذة رشا الإقرار بأنّ تقرير المصير حقٌّ قانونيٌّ للشعوب، لا يجوز تجريمه أو التلويح بحرمانه بحجة “الخوف من الانفصال”. وظيفة القوى الوحدوية هي الإقناع لا الحظر.

٢/ عقدٌ فوق دستوري علماني ديمقراطي

لا معنى لوحدةٍ تُبقي على تدرّج المواطنة والتمييز. وحدةٌ تستحق الدفاع عنها هي وحدة المساواة أمام القانون، حياد الدولة دينيًا وثقافيًا، توزيع عادل للثروة والسلطة، ولا مركزية حقيقية وهذا ينسجم مع المعايير الدولية ومع دروس نيفاشا (غير المُنجَزة).

٣/ آلياتٌ نظيفة لممارسة الحق

إذا بلغ أيُّ إقليمٍ عتبةَ المطالبة باستفتاء، فالمعيار هو سلامة العملية: وقف عدائيات مُلزِم، إشراف إقليمي/أممي، سؤالٌ واضح، أغلبيةٌ واضحة، مفاوضاتٌ ملزمة على القضايا الاتحادية (الموارد، الحدود، المواطنة)، كما في كيبيك/كندا واسكتلندا. هكذا تُصان الشرعية، وتُحمى الوحدة من داخلها.

٤/ هزيمة سرديّات الكراهية قديمها وحديثها:

فشل النخب المدنية والإعلام في تفكيك ماكينة الدعاية الإسلاموية كان ثغرةً استراتيجية. المعالجة: مشروع إعلام عمومي مستقل، مناهج تربية مدنية تعددية، وحقول ثقافية وفنية تُحصّن المجال العام وهي أدوات غرامشيّة لبناء “كتلة تاريخية” ديمقراطية، لا حشودًا ظرفية.

أخيرا، نحو عقدٍ جديد: من نقد الوصاية إلى تأسيس وحدةٍ جاذبة.

ليست وحدة السودان مجرّد “عاطفة قومية” تستدعي في لحظات الأزمات، ولا انفصاله “حتمية مسلّحة” تُفرض بالبندقية. إنّها، في جوهرها، حصيلة عقدٍ سياسيٍّ وأخلاقيّ: إمّا ناجز يُبنى على المساواة والعدالة، أو فاشل يُعيد إنتاج الإقصاء والصراع. وقد علّمتنا التجربة السودانية أنّ الدولة المركزية ونخبها، بيمينها ويسارها، لم تُسدد استحقاقات “الوحدة الجاذبة”، بل انشغلت بالمناورات والتواطؤ، أو اكتفت باللامبالاة والعجز؛ فكان أن اختار الجنوبيون الاستقلال بإرادة حرة وموثّقة دوليًا. واليوم، لا يُعالَج هذا الإرث بالعودة إلى وصاية جديدة على الهامش، بل بالاعتراف أولًا بحق تقرير المصير، ثم ببناء وحدةٍ تُنتخب لا تُفرض، وحدةٍ عقلانية وأخلاقية تستند إلى دستورٍ علماني ديمقراطي، جيشٍ وطني مهني، ومؤسساتٍ تُقنع المواطن بأن التصويت لصالح البقاء خيارٌ منطقي ومغْرٍ. فمن أراد الدفاع عن الوحدة، فليُقدِّم برهانًا مؤسسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا عليها؛ أما إرادة الشعوب فموضعها الاحترام، لا الحجر. إنّ الدرس الأكبر المستفاد من العهود الدولية وتجارب إسكتلندا وكيبيك وتيمور وإريتريا وجنوب السودان واحد.

تقرير المصير ليس نهاية السياسة، بل بدايتها الصحيحة.

اعترف بالحق، ابنِ شرعيةً وإقناعًا، ودع المواطنين يحسمون بلا وصاية.

الانتهاكات بين واجب الإدانة وخطيئة الوصاية:

إنّ إدانة الانتهاكات واجبٌ أخلاقي لا يسقط بالتقادم، ولكن تحويل هذا الواجب إلى ذريعةٍ لمصادرة حقّ تقرير المصير من جذوره انحرافاً عن العدالة ذاتها. فالمحاسبة لا تُلغي الحقوق، بل تعزّزها؛ ومن يستخدم خطاب الانتهاكات لتجريم الحق لا يناضل من أجل الضحايا، بل يُصادر إرادتهم، ويُعيد تكريس وصاية الدولة القديمة التي قامت على القهر والإقصاء. وهكذا يتحوّل النقد، بدل أن يكون أداةً لتصحيح المسار، إلى سلاحٍ لحراسة الامتيازات القديمة وإدامة الفشل، فلا ينتج وحدةً عضوية ولا تأسيسًا جديدًا، بل يرسّخ الانقسام، ويؤجل بناء عقدٍ وطنيٍّ ديمقراطي قائم على المساواة والحرية والعدالة التاريخية.

النضال مستمر والنصر أكيد.

اعتمدت هذه السلسلة من المقالات على أدوات البحث والتحرير التقليدية، إلى جانب التقنيات الإلكترونية الحديثة.

*هذا المقال يأتي ردًا على مقال نُشرته الأستاذة رشا عوض بعنوان : “ميثاق تأسيس ..تقرير مصير ام قرار انفصال؟” يمكن الاطلاع عليه عبر الرابط أدناه:

https://www.altaghyeer.info/ar/2025/08/17/%d9%85%d9%8a%d8%ab%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%a3%d8%b3%d9%8a%d8%b3%d8%aa%d9%82%d8%b1%d9%8a%d8%b1%d9%85%d8%b5%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%81%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%9f/

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.