علاء خيراوي

حين يتحول التهميش إلى استعلاء، والرد إلى كراهية مضادّة، يصبح الوطن أسير دائرة لا تُنتج سوى الانقسام والدماء.

في السودان، لم تكن العنصرية مجرّد خطأ اجتماعي عابر، بل تحوّلت إلى لعنة متوارثة، تسرّبت في شرايين الدولة والمجتمع حتى غدت جزءًا من البنية العميقة التي تحكم السلوك والقرارات.

فمنذ أن رُسمت الخرائط بمداد المستعمر، وُضعت خطوط فاصلة بين مركز يُمنح الامتيازات وهوامش يُلقى عليها الفقر والوصم، لتتكرّس عقلية الاستعلاء العرقي والثقافي التي ما زالت تعصف بالبلاد حتى اليوم.

وما كان للجرح أن يتقيّح لولا أن الردّ على العنصرية جاء بدوره مشوَّهًا، فانبثقت العنصرية المضادّة كوجه آخر للخراب، لا تهدم أسوار التمييز بل تبني أسوارًا مضاعفة من الكراهية والانتقام. هكذا وجد السودان نفسه بين مطرقة الاستعلاء وسندان المظلومية المنتقمة، في حلقة مفرغة جعلت الدم هوية، واللون سلاحًا، والقبيلة وطنًا بديلاً عن الوطن.

منذ الاستعمار التركي المصري، مرورًا بالإدارة البريطانية، تأسست قاعدة التمييز بين المركز والهامش. ووُضع الشريط النيلي في خانة النخبة المتحضّرة، بينما جرى تصوير الغرب والجنوب والشرق كمناطق متخلفة لا تُمنح إلا نصيبًا من العسكر والعمالة الرخيصة.

هذا الإرث لم يُمحَ مع الاستقلال، بل ورثته النخب الحاكمة، فأبقت على توزيع السلطة والثروة مختلًا، وأبقت الأطراف على هامش المعادلة. وجاء نظام الإنقاذ ليضاعف هذا الشرخ حين صاغ هويةً عربية إسلامية إقصائية، همّشت الآخرين وزرعت بذور الانفصال وأشعلت الحروب الأهلية.

لكن المأساة الكبرى أنّ التهميش لم يُنتج فقط مقاومة عادلة، بل أفرز أيضًا عنصرية مضادّة، تتبنّى خطابًا مشبعًا بالكراهية، تردّ على الاستعلاء باستعلاء معاكس، وعلى الوصم بوصم مضاد. صار بعض أبناء الهامش يرون في كل شمالي خصمًا، وفي كل من ينتمي للشريط النيلي شريكًا في الجريمة التاريخية. وهكذا تلوّنت معركة الحقوق بلون الانتقام، وتحوّلت من سعي نحو العدالة والمواطنة إلى دوامة من التصنيفات العرقية التي تقتل فكرة الوطن الجامع.

لقد جاءت الحرب الدائرة اليوم لتكشف أقبح وجوه العنصرية في السودان. فما كان حبيس الخطاب والمجالس المغلقة انفجر في شكل تصفيات عرقية وقتل على الهوية من الجانبين، حتى صار لون البشرة أو اللكنة أو اسم القبيلة بطاقة موت في شوارع المدن ومخيمات النزوح.

وأفرزت الحرب خطابًا مسمومًا على وسائل الإعلام ووسائط التواصل، يُعمّق الشروخ بين السودانيين ويحوّل الخلاف السياسي والعسكري إلى صراع عرقي مفتوح. بهذا المعنى، لم تعد العنصرية مجرد عامل تاريخي كامناً في البنية الاجتماعية، بل تحوّلت إلى وقود مباشر للحرب، وإلى أداة لتمزيق ما تبقى من الروابط الوطنية، بحيث صار السوداني يرى أخاه لا كمواطن مثله، بل كـآخر تجب محاربته أو إقصاؤه.

وهنا تبرز رؤية المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد الذي حذّر مبكرًا من خطورة هذا المسار. ففي بعض ندواته ومحاضراته، اعتبر أن العنصرية المضادّة في الهامش قد لا تؤدي إلى تصحيح مظالم المركز، بل قد تشعل جذوة الانفصال في وجدان الشماليين أنفسهم.

أي أن الردّ بالكراهية يعمّق الإحساس بالانعزال، ويدفع قطاعات من الشمال النيلي إلى الانكفاء على ذاتها، بل وربما التبرؤ من وحدة السودان إذا كان ثمنها هو الاتهام الجماعي والدائم. بهذا المعنى، رأى حاج حمد أنّ ما يظنه البعض سلاحًا للتحرر قد ينقلب أداةً لتفتيت البلاد، ويغدو العنصران (الاستعلاء والعنصرية المضادّة) وجهين لعملة الخراب.

إنّ أخطر ما أنتجته هذه الثنائية هو انهيار الثقة بين السودانيين. ففي المدن الكبرى يتجلّى التمييز في التوظيف والسكن والزواج، بينما في الأطراف ينقلب إلى حرب إبادة جماعية. وما مجازر دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق إلا شاهد على كيف يتحوّل خطاب الأصل واللون إلى رخصة لسفك الدماء. وفي المقابل، حين يُبرَّر الانتقام العرقي باعتباره استعادة للكرامة، فإن ذلك لا يعني سوى إعادة إنتاج نفس المأساة التي تشرذم السودان.

إنّ معالجة جرحٍ غائر مثل العنصرية والعنصرية المضادّة لا يتمّ عبر المسكنات ولا عبر التواطؤ مع الواقع، بل يحتاج إلى مشروع وطني شامل يعيد بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة. وأول الطريق هو الاعتراف بأنّ العنصرية في السودان ليست حالة فردية بل بنية مؤسسية مترسخة، وأنّ الردّ عليها بعنصرية مضادّة لا يُنقذ الوطن بل يضاعف نزيفه.

ومن ثمّ لا بد من إصلاح سياسي شامل يعيد صياغة العقد الاجتماعي على قاعدة المواطنة الكاملة، ويضع دستورًا دائمًا يقطع مع عقلية المركز والهامش ويضمن مشاركة كل الأقاليم في الحكم وصنع القرار. ويوازي ذلك عدالة اقتصادية تُعيد توزيع الموارد والثروة، وتنمية متوازنة تكسر مركزية الخرطوم، وتمنح دارفور وكردفان والشرق والنيل الأزرق حقها في الخدمات والفرص، حتى يشعر كل مواطن أن الدولة وطن له لا سيف مسلط عليه.

كما ينبغي أن تحدث ثورة تعليمية وثقافية تُعيد كتابة المناهج على أساس التنوع السوداني، وتُبرز لغات وثقافات المجموعات المختلفة باعتبارها جزءًا من رواية وطنية واحدة، مع إطلاق مشروعات ثقافية وفنية تُعلي من المشترك لا من الانقسام.

وفي ذات السياق، يجب أن تتكفل الدولة بسنّ قوانين رادعة تُجرّم التمييز وخطاب الكراهية، وتلاحق جرائم العنصرية كما تلاحق جرائم القتل والفساد، ليصبح احترام الكرامة الإنسانية جزءًا من سلطة القانون لا مجرد شعار أخلاقي. والإعلام بدوره لا بد أن يتحول من منبر للتعبئة القبلية إلى صوت وطني مسؤول يضع الحقيقة فوق التحريض، والكرامة الإنسانية فوق الدعاية.

ولا تكتمل المعالجة من دون مصالحة وطنية جادة، على غرار تجارب جنوب أفريقيا، تُفتح فيها ملفات الماضي، ويواجه الضحايا والجناة بعضهم بعضًا، لا بهدف الانتقام بل بهدف الشفاء الجماعي ورأب الصدع.

إنّ السودان لا يحتاج إلى شعارات براقة أو اتفاقيات هشة تُوقّع في قاعات الفنادق، بل إلى إرادة سياسية ومجتمعية تملك الشجاعة للاعتراف بالجرح والعمل على مداواته بجدية. وإذا لم تتحقق هذه الثورة القيمية التي تجعل من المواطنة لا القبيلة، ومن العدل لا الاستعلاء، أساس الدولة المقبلة، فإنّ العنصرية والعنصرية المضادّة ستبقيان وقودًا لحروب جديدة لا تنطفئ.

فالسودان اليوم يقف على حافة قاعٍ مظلم حفرته أيادي العنصرية والعنصرية المضادّة معًا. لم يعد الصراع بين المركز والهامش مجرد خلاف سياسي على سلطة أو ثروة، بل تحوّل إلى معركة وجود تُقاس فيها قيمة الإنسان بلون بشرته واسم قبيلته، لا بقدراته ولا بولائه لوطنه. وإذا استمر هذا النهج فلن يبقى السودان سوى أطلال ممزقة على خريطة تتلاعب بها القوى الإقليمية والدولية.

إنّ الخروج من هذه الحلقة الجهنمية لا يكون بالانتقام ولا بالمكابرة، بل بمشروع وطني يضع المواطنة في الصدارة ويكسر أصنام العرق واللون.

فإما أن يتقدّم السودانيون بشجاعة ليهدموا جدران الكراهية، ويشيّدوا دولةً يسع ظلّها الجميع، أو أن يظلوا أسرى لهذا النزيف الأبدي حتى تنطفئ آخر شمعة أمل في بقاء الوطن. إنّها لحظة الحقيقة إمّا أن نختار السودان وطنًا حيًّا، أو ندفنه بأيدينا في مقابر العصبية والجهل.
[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.