في عالم تتزايد فيه الفردانية وتتقلص مساحات التواصل الحقيقي، وجد كثيرون في أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل “شات جي بي تي”، ضالتهم. لم تعد هذه الأدوات مجرد مساعد رقمي للإجابة عن الأسئلة، بل تحولت إلى صديق حميم، طبيب نفسي، ومستشار شخصي يلجأ إليه الآلاف لمشاركة أسرارهم ومخاوفهم. هذه الظاهرة الجديدة تفتح الباب أمام نقاش واسع بين الخبراء حول طبيعة هذه العلاقة: هل هي استجابة صحية لحاجة إنسانية ملحة أم إنها انزلاق نحو العزلة ووهم خطير؟

ملجأ في زمن الفردانية

ترى الأخصائية النفسية ريم عكراش أن لجوء الناس إلى الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة مؤشرا على اضطرابات نفسية جديدة، بل هو استجابة لحاجة إنسانية أساسية أصبحت مفقودة.

وقالت ضمن تصريح لهسبريس: “نحن نعيش في مجتمع فردي، كل واحد يعيش في دائرته الخاصة، لم يعد هناك سند أو إحساس بالانتماء”. وأضافت أن هذه الأدوات توفر “فضاء للاستماع”، حيث يمكن للأفراد التحدث بصراحة عن مواضيع حساسة قد لا يجرؤون على طرحها مع الأصدقاء أو العائلة خوفا من الأحكام المسبقة.

وأشارت عكراش إلى أن نسبة المغاربة الذين عانوا أو يعانون من اضطرابات نفسية تصل إلى 48.9%، مما يؤكد وجود حاجة ماسة إلى مساحات آمنة للتعبير. في هذا السياق، يأتي الذكاء الاصطناعي ليلعب دور الصديق المتقبل الذي لا يحكم على الآخر، ويستجيب لاحتياجاته العاطفية الفورية.

خطر الانعزال

على الرغم من فوائده الظاهرية، إلا أن ريم عكراش تحذر من مخاطر جدية للذكاء الاصطناعي، مبرزة أن الخطر الأول والأكبر هو “الانعزال”؛ إذ قد يكتفي الشخص بعلاقته مع الذكاء الاصطناعي ويبتعد كليا عن التواصل البشري الحقيقي.

أما الخطر الثاني، فلا يقل أهمية، ويتعلق بخصوصية البيانات. وأوضحت عكراش أن “المعلومات التي نشاركها مع الذكاء الاصطناعي لا نعرف بعد ما إذا كانت محمية أم لا؛ لا نعرف ما إذا كان يمكن استعمالها ضدنا”. هذا الغموض يضع المستخدمين في موقف هش، خاصة عند مشاركة تفاصيل شخصية وحميمة.

الخلل في البشر

من منظور مختلف، يرى عادل الحساني، خبير في علم النفس الاجتماعي، أن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي كأداة، بل في طريقة استخدام البشر هذه الأداة. وقال إن سر نجاح هذه التقنية هو قدرتها على “الحفاظ على السياق” أثناء الحوار، وهو أمر يصعب أحيانا حتى على البشر.

وأوضح الحساني، ضمن تصريح لهسبريس، أن العلاقة مع إنسان قد تكون “أسوأ من الروبوت؛ لأن البشر يعانون من التحيزات ويميلون إلى إطلاق الأحكام، بينما الذكاء الاصطناعي مبرمج على تقديم إجابات يطغى عليها الاحترام والتقدير، مما يوفر للمستخدم نوعا من العزاء”، موردا أن السلبيات الملاحظة حاليا “راجعة إلى البشر بحد ذاتهم”، مثل طرح الأسئلة الخاطئة أو الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، وهي الأخطاء نفسها التي كانت تُرتكب سابقا مع محركات البحث التقليدية.

وهم الصداقة

وتعمق الحساني في تحليل مفهوم “الصداقة”، قائلا إنها “تقوم على أساسين: الإحساس بالكفاءة والتكافؤ، والتبادل المتبادل للعطاء”. والعلاقة مع الذكاء الاصطناعي، حسب رأيه، تفتقر إلى هذين الشرطين، فهي ليست صداقة حقيقية.

وحذر الخبير في علم النفس الاجتماعي من أن هذه العلاقة قد تخدم الميول النرجسية لدى البعض. فالذكاء الاصطناعي مبرمج ليكون دائما داعما ومقدرا، فيتحول إلى ما يشبه “العبد” الذي يثبت للمستخدم نرجسيته ويعززها. وقال: “حين يرى أنك نرجسي وتركز على ذاتك، يمشي معك في الخط ويغذي نرجسيتك، وهذه بطبيعة الحال ليست صداقة”.

في النهاية، خلص الخبيران النفسيان إلى أن هذه الظاهرة تكشف الكثير عن واقعنا الاجتماعي. فبينما يوفر الذكاء الاصطناعي حلا مؤقتا للشعور بالوحدة والحاجة للتقدير، يبقى السؤال الأهم موجها إلينا: لماذا أصبحنا عاجزين عن إيجاد هذا الأمان وهذا التقبل في علاقاتنا الإنسانية الحقيقية؟

المصدر: هسبريس

شاركها.