حسن عبد الرضي الشيخ
في خطوة لا يمكن وصفها إلا بالكارثية والمخزية، أعلنت وزارة التربية والتعليم في السودان إعفاء أبناء “شهداء معركة الكرامة” بل وحتى “المشاركين فيها” من الرسوم الدراسية، متجاهلة بشكل فجّ أبناء المعلمين الذين يشكّلون العمود الفقري للعملية التعليمية.
القرار لم يأت فقط خارج المنطق، بل خارج القانون والأخلاق والالتزامات الدولية، ليكشف عن عمق الخلل الذي أصاب منظومة الحكم والإدارة في البلاد.
أن إعفاء أبناء “المقاتلين” وتجاهل المعلمين: قمة السخرية! فهل من المعقول أن تُكافئ الدولة من زُجّ بأطفاله إلى ساحات الحرب، وتُعاقب من يدرّس هؤلاء الأطفال؟! إن تجاهل أبناء المعلمين، في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة وأجور لا تكفي لعيش كريم، يُعتبر احتقارًا مفضوحًا لمن حملوا على أكتافهم مسؤولية التعليم رغم كل الصعاب.
إنه قرار يشي بسياسة انتقائية مشوهة، تعطي امتيازات على أساس الولاء والمشاركة في الحرب، لا على أساس المساهمة في بناء الوطن. فالمعلم الذي يكدّ يوميًا لتعليم الأجيال لا يُعفى أبناؤه من الرسوم، بينما يُكافأ من شارك أو أقحم أبناءه في معارك لا يجب أن يكون الأطفال طرفًا فيها أصلًا. أي عدالة هذه؟ وأي عقل يدير الوزارة؟
أن ذلك اعتراف رسمي باستغلال الأطفال، وإنها لجريمة موثّقة. أما الحديث عن إعفاء “الطلاب المشاركين في معركة الكرامة” لا يُعتبر زلة لسان، بل جريمة موثّقة واعتراف علني بانتهاك صارخ لاتفاقية حقوق الطفل التي تحظر إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة. هذا التصريح لا يمكن تمريره أو التغاضي عنه، ويستوجب تحقيقًا عاجلًا ومحاسبة مباشرة للوزير ومن خلفه رئيس مجلس الوزراء.
نحن أمام مشهد صادم: دولة تعترف، بكل بساطة، أنها جرّت أطفالها إلى الحرب، ثم تكافئهم بإعفاء من الرسوم! وكأن حياة الطفل تُختصر في الإعفاء من رسم مدرسي، بينما مستقبله يُحرق في جبهات القتال. هذا ليس فقط استهتارًا بالتعليم، بل هو تطبيع مع جريمة حرب موثّقة.
إن مجانية التعليم التزام لا منحة. فكل من يحاول تبرير فرض الرسوم، أو قصر الإعفاء على فئات بعينها، يتجاهل حقيقة أساسية: التعليم ليس مِنّة من الدولة، بل حق أساسي مكفول في المواثيق الدولية، وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ما يجري الآن هو عملية تدمير ممنهجة لما تبقى من التعليم العام في السودان، وتحويله إلى سلعة لمن يستطيع الدفع، وحرمان آلاف الأطفال من حقهم في مقعد دراسي، فقط لأن آباءهم ليسوا جزءًا من الحرب أو لا يتمتعون بـ”الحظوة السياسية”.
التحية للجبهة الصامدة: لجنة المعلمين السودانيين. في ظل هذا العبث الممنهج، جاء بيان لجنة المعلمين السودانيين كصفعة قوية على وجه السلطة، صوتًا جريئًا ينطق باسم الضمير الوطني ويُدافع عن جوهر التعليم وقيم العدالة. البيان لم يكتف بالإدانة، بل طالب بمحاسبة من تسببوا في هذا الانحدار، ورفعوا الصوت من أجل إلغاء الرسوم فورًا. ومساءلة الوزير سياسيًا وقانونيًا. والالتزام بالاتفاقيات الدولية لحماية الطفل. ووقف جرّ الأطفال إلى أتون الحرب.
هذه المطالب يجب ألا تكون محل نقاش، بل خطوات عاجلة تُنفّذ فورًا إن أرادت الحكومة أن تحفظ ما تبقى من شرعيتها.
في الختام، نقول بملء الفم: نحن لا نعيش فقط أزمة تعليم، بل أزمة أخلاق، وأزمة حُكم، وأزمة أولويات. حكومة تُعفي أطفال الحرب وتُرهق أطفال المعلمين، ليست حكومة تُعنى بمستقبل. ووزير يُقرّ بوجود أطفال على خطوط النار، لا يستحق أن يبقى في منصبه ليومٍ واحد.
فيا شعب السودان، لا تقبلوا بهذا العار. لا تسمحوا بتحويل أطفالنا إلى وقودٍ لحروب سياسية قذرة. ولا تصمتوا على من يُقصي المعلمين ويكافئ سماسرة الدم.
المصدر: صحيفة الراكوبة