غياب استراتيجية واضحة من سلطة بورتسودان للتعامل مع تبعات الحرب وضع المدنيين في مواجهة مباشرة مع أعباء ثقيلة، بين استغلال الشركات الخاصة التي تفرض رسومًا باهظة مقابل خدمات النظافة والإخلاء، وبين مخاطر صحية حقيقية ناجمة عن الجثث المتحللة والمخلفات والذخائر.
التغيير : فتح الرحمن حمودة
بعد أشهر من سيطرة الجيش السوداني على العاصمة الخرطوم، دُعي السكان للعودة إلى ديارهم في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. استجاب كثيرون، لكن الواقع الذي واجههم كان أقسى من توقعاتهم: منازل مدمرة، جثث متروكة في بعض الأحياء، وتكاليف باهظة يُقال إن شركات نظافة خاصة فرضتها لإزالة آثار الدمار ونقل الجثث.
قد يبدو هذا المشهد وكأنه مقتطع من رواية خيالية، لكنه في الحقيقة يعكس الوضع الذي يعيشه سكان الخرطوم اليوم.
هاجس الجثث المجهولة
وبحسب مصدر، فإن معظم الأحياء الشعبية في الخرطوم ظل سكانها داخل منازلهم منذ اندلاع الحرب، ولذلك لا يُتوقع العثور على جثث فيها، لكنه أشار إلى أن مناطق شهدت عمليات عسكرية مكثفة مثل يثرب والمناطق القريبة من سلاح المدرعات والمقرن قد تحتوي على جثث لم تُنقل حتى الآن لعدم وجود دور حكومي أو مؤسسات مختصة بهذا العمل.
ورجّح المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه في حديثه لـ”التغيير”، أن بعض المنازل الخالية أو الميادين قد تضم جثثًا وربما حتى في المجاري وشبكات الصرف الصحي، نظرًا لصعوبة دفنها داخل المباني المشيدة بالخرسانة المسلحة.

ويظل استمرار وجود جثث مجهولة في العاصمة الخرطوم يشكل هاجسًا صحيًا وإنسانيًا خطيرًا، خصوصًا في الأحياء التي كانت مسرحًا للمواجهات العسكرية المكثفة، فغياب معالجة منظمة لهذا الملف يهدد بانتشار الأوبئة ويعمّق معاناة السكان العائدين إلى منازلهم.
وأوضح الشاب علي جباي، المتطوع في مستشفى النو، أن العائدين إلى الخرطوم يواجهون تحديات كبيرة تختلف من منطقة إلى أخرى، وأشار إلى أن سكان بحري والخرطوم يعانون بشكل خاص، حيث إن منازلهم شبه خالية من الأثاث فضلًا عن الدمار الواسع الذي لحق بها.
وأضاف في حديثه لـ”التغيير” أن بعض البيوت ما زالت تحتوي على جثث لم يتم انتشالها بعد، مؤكدًا أن فريق المتطوعين يخصص قسمًا خاصًا بالجثث مجهولة الهوية في المستشفى، ويقوم بدور انتشال الجثث من الأحياء السكنية عند الحاجة، إضافة إلى المساعدة في تجهيز بعض المنازل للعائدين.
عبء إنساني
وبحسب متابعة “التغيير”، يجد المتطوعون في السودان أنفسهم في مواجهة عبء إنساني يفوق طاقتهم منذ اندلاع الحرب، وبعد سيطرة الجيش السوداني على الخرطوم يجد الكثيرون أنفسهم مضطرين للقيام بأدوار تتجاوز إمكاناتهم المحدودة، بدءًا من انتشال الجثث وصولًا إلى تهيئة المباني للسكان العائدين.
وأشار الناشط “م.ب” المتواجد بالخرطوم، وفضل عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية، إلى أنه تم إخراج جثث من مناطق عدة لكن هناك جثث أخرى لم يُعثر عليها، وقال لـ”التغيير” إنها ربما تحللت بالفعل، مما يشكل خطرًا صحيًا كبيرًا. وانتقد في حديثه بعض شركات النظافة التي تتقاضى مبالغ طائلة من المواطنين، في حين أنها تستغل العاملين المحتاجين للعمل بأجور زهيدة، مما قد يعرضهم لمخاطر إضافية، خاصة في المناطق الملوثة أو التي تحتوي على متفجرات.
ويرى مراقبون أن غياب استراتيجية واضحة من سلطة بورتسودان للتعامل مع تبعات الحرب وضع المدنيين في مواجهة مباشرة مع أعباء ثقيلة، بين استغلال الشركات الخاصة التي تفرض رسومًا باهظة مقابل خدمات النظافة والإخلاء، وبين مخاطر صحية حقيقية ناجمة عن الجثث المتحللة والمخلفات والذخائر، مما يجعل معالجة الكارثة رهينة بمبادرات فردية غير قادرة على استيعاب حجم الأزمة.
تضارب مسؤوليات
وقال أحمد فاروق، المتحدث باسم غرف طوارئ جنوب الحزام، إن تنظيف المنازل يظل مسؤولية أصحابها ويمكن الاستعانة بشركات متخصصة، بينما يبقى موضوع دفن الجثث من اختصاص السلطات الرسمية، حيث يتوجب على المواطنين إبلاغ الشرطة في حال العثور على جثث داخل المنازل.

وأضاف في حديثه لـ”التغيير” أن غرف الطوارئ تتحمل أعباء كبيرة في العمل الإنساني بالمستشفيات والمراكز الصحية، في ظل محاولات حكومية لإنهاء دورها عبر سياسات متعلقة بالتسجيل في المفوضية، وهو ما ترفضه الغرف.
وأكد فاروق أنه لم تصل حتى الآن شركات مختصة بنقل الجثث في منطقة جنوب الحزام، لكنه أشار إلى أن الجيش قام مؤخرًا بنبش بعض الجثث المدفونة في منطقة الأزهري، الأمر الذي أثار اعتراضًا من السكان، بينما جرى نقل جثث من وسط الخرطوم والسوق العربي إلى أم درمان، بحسب ما وصله من معلومات.
ويرى مراقبون أن تضارب المسؤوليات القانونية والإنسانية بين المؤسسات الرسمية والجهات الأهلية أدى إلى تعطيل عملية دفن الجثث في الخرطوم، حيث تتنصل بعض الجهات من دورها أو تحصره في حدود ضيقة، بينما تفتقر الأطراف الأخرى للإمكانات اللازمة، مما أطال أمد الأزمة لتبقى الجثث عالقة بين التعقيدات الإجرائية وضعف الاستجابة.
تحديات الدخل والمعيشة
من جانبه، أوضح هيثم فتحي، الخبير الاقتصادي، أن عودة النازحين إلى منازلهم تخضع لعوامل اقتصادية وأمنية في مقدمتها السكن والخدمات الأساسية والتعليم والاستقرار، مؤكدًا أن فقدان المنازل يشكل أزمة كبيرة إلى جانب تحديات الدخل والمعيشة اليومية.
وأضاف في حديثه لـ”التغيير” أن العودة إلى المنازل بعد الحرب تتطلب استجابة شاملة تشمل إعادة الإعمار والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير المساعدات الإنسانية، وإعادة البنية التحتية وتأهيل الخدمات وتشجيع القطاع الخاص.
وينظر محللون إلى أن أي عودة للسكان إلى الخرطوم تبقى رهينة بعملية شاملة تتجاوز مجرد الرجوع إلى المنازل، إذ لا يمكن تحقيق استقرار إنساني من دون إعادة الإعمار وإحياء القطاعات الاقتصادية المتضررة، غير أن هذه الجهود تظل معلقة على شرط أساسي هو وقف الحرب بشكل كامل.
المصدر: صحيفة التغيير