دعوتنا إلى بناء حركة وطنية جديدة بعيدة عن التبعية وتعمل فقط لمصالح بلادنا ووحدتها
نضال عبد الوهاب
لا شك عندي أن كثيراً من إخفاقاتنا السياسِية وتراجع بلادنا مُنذ إستقلالها كان نتيجة مُباشرة لعدم وجود الرؤية السُودانية الصحيحة لإدارة بلادنا وفق مصلحتها الأساسية ومصلحة جميّع الشعب السُوداني، وكذلك في عدم وجود حركة وطنية غير مُنحازة إلا لتلك المصالح فقط، دونما أي نوع من “التبعية” الخارجية أو المصالح “الذاتية” سواء لأفراد أو مجموعات أو كيانات أو قوى سياسية.
هذا بالطبع ليس “تشكيكا” في ولاء من تولوا مهام الحركة الوطنية للسُودان ومصالحه، وليس تقليلاً من أدوارهم السياسية التي لعبوها طوال فترة السُودان الحديث، ولكنه واقع نتيجة الأحداث التاريخية والوقائع التي قادت بتسلسلها إلى ما فيه نحن اليوم.
هنالك فرق بين أن تسعى الدولة مُمثلة في من يقومون بإدارتها في البحث عن المصالح المُشتركة وعقد الصداقات أو التحالفات الخارجية، لتعظيم مصالح بلادها من بين تلك المصالح “المُشتركة” وما بين جعل مصالح البلاد هي الأدنى، والتخلي “طواعيةً” عن ذلك، ثم الأسوأ بعدها هو رهن “قراراها” السيادي والسياسِي للآخرين لتوجيهه أو إملاؤه أو التدخل فيه، وتحويل البلاد بالتالي إلى دولة “مسلوبة” الإرادة، وضعيفة، ويديرها “تابعون”، قد يتحولوا بمزيد من “التنازلات” إلى مجرد “موظفون” أو بالتبعية إلى مُنفذي “أجندة” و”مصالح” دول أخرى في بلادنا.
لقد فقدت الحركة الوطنية السُودانية ما بعد مرحلة الإستقلال إلى أهمّ سماتها التي تجعل من بلادنا دولة ذات إستقلالية حقيقية وتعمل قيادتها وفق “رؤية” سُودانية محضة تُكرسها فقط لتقدم بلادنا وتنميتها وتطويرها ونحن كدولة وشعب نملك دون أدنى شك كُل المقومات لأجل ذلك وبأن نكون في “مُقدمة” دول القارة الأفريقية سياسياً واقتصادياً وعلمياً وإجتماعياً وعسكرياً.
إن “المؤسسون” الأوائل لدولة السُودان ما بعد التحرر من الاستعمار والاستقلال لم يكونوا للأسف على درجة من الوعي بأهمية بلادنا وتنوعها وثرائها، أقول هذا كحقيقة وليس تقليلاً منهم أو عدم “احترام” لتجربتهم، ولكن كما أسلفت فإن تسلسل الأحداث والواقع يقود لتلك النتيجة، فهنالك تيار سياسي لم يكن يعترف باستقلالنا “الكامل” وظل يرى كمثال أن نتحد مع الشقيقة والجارة مصر، وآخرون لم يستطيعوا “الفكاك” من التبعية لدولة الاستعمار وسياساتها في بلادنا، في الاقتصاد والتعليم وحتى في طريقة إدارة الدولة، وكان ولاؤهم “واضحاً” لهم، وحتى بعد دخول بلادنا مرحلة الحُكم العسكري تحولت “التبعية” أو رهن القرار السياسي وتأرجحت ما بين المُعسكرين الغربي والشرقي، الرأسمالي والشيوعي في ذلك الوقت، دونما توظيف حقيقي للشراكات السياسية العالمية في دعم قرارنا وتطورنا الوطني، وكان الخطأ الكبير الأول من بين كُل أخطاء الحركة الوطنية السُودانية في بداياتها هو عدم قدرتها على التوجه نحو بناء دولة سودانية ليست قوية فحسب، وإنما دولة موحدة وجداناً وجغرافيا وسياسياً وإجتماعياً، والتحول إلى أمة سُودانية داخل دولة واحدة، وهذا الخطأ كان بالانحراف الأول في تعريف طبيعة دولتنا نفسها وهويتها ومن ثم عملية إندماجها في المجتمع الدولي والإقليمي من حولنا، وبناء سياستها الداخلية والخارجية علي هذا الأساس، في التعليم والاقتصاد والحياة المدنية السياسية والجيش والمؤسسة العسكرية وغيرها، وبدلاً عن ينعكس سلوك الدولة السُودانية في النواحي الإيجابية التي تقود إلى تطوير بلادنا ساهمنا بأنفسنا “كسُودانيين” في إضعاف بلادنا وجرها إلى الصراعات السياسية ومن ثم الحروب الأهلية ثم إلى التفتت والانقسام ومواصلة الحرب والمزيد من “التبعية” وضعف القرار السيادي والسياسي والدور الوطني الحقيقي.
إذاً فإن “ضيق الأفق” وغياب “الوعي السياسي” الكامل والناضج هو الذي مهد لكل ما نحن فيه اليوم وساهم فيه، فوصلنا إلى هذه المرحلة الحالية وكانت قمة مأساتها أن تجد دولة يتلقى من يقومون بإدارتها الأموال من الخارج حتى في شكل “رواتب” و”مُخصصات”، دعك من الوقوع الكامل أو شبه الكامل في توجه القرار السياسي والسيادي إلى دول أخرى إقليمية ودولية، وهذا بوجود قيادة مدنية وعسكرية تقوم بأدوار لا تنسجم مع الدور “الوطني” الأصيّل، وبالمُتابعة لتسلسل هذا الانحراف الوطني لدور الحركة الوطنية، نجدها أيضاً وللأسف قد تعرضت لاختراقات “عميّقة” وكنتيجة مُباشرة لتغليب مصالح “الكثيرين” الذاتية أو لكياناتهم سواء الاجتماعية أو السياسِية، مما أضعف وبشدة إلى حلقة الحركة الوطنية السُودانية وأوجدنا في هذا المصير الحالي والوهن الكبير.
للخروج من كُل هذا نحتاج أن ننهض من جديد كدولة وشعب، ونحتاج أول ما نحتاج إلى إعادة بناء للحركة الوطنية السُودانية وفق مبادئ عُليا ليست ذات “هوى” ولا تتعلق بسُلطة مؤقتة أو تابعة أو مُنحرفة.
هذه المبادئ أساسها أننا أمة سُودانية ودولة موحدة، تعمل لمصالح بلادنا العُليا ولتطويرها وتنميتها في كُل المجالات وتقديم مصالحها وتعظيمها على ماعداها، وفي هذا يتساوى كُل السُودانيين ويعملون كُلاً في مجاله وبحسب مقدراته.
نحتاج بعدها إلى إعادة تأسيس وترميم صحيح، نحتاج إلى هذا، ولكن من يقوم بهذا الدور هو وجود حركة وطنية سُودانية يقودها من يؤمنون بالمبادئ العُليا لها وتعظيّم مصلحة بلادنا وعدم رهن قرارها السيادي والسياسِي أو تبعيتها، مع خلق الشراكات أو أي خصوصية علاقات دولية أو إقليمية لتحقيق هذه المصالح فقط دونما تقديم أي تنازلات تخصم من قرارنا أو سيادتنا أو أولوية مصلحة بلادنا وجميّع شعبها على الدوام.
إن دعوتنا إلى إعادة بناء الحركة الوطنية السُودانية هو ليس الدعوة للدخول في حزب أو التجمع في تحالف سياسي يقوم بكتابة “منفستو” أو دستور، وإنما هو التنادي مع الإيمان العظيّم بالمبادئ الوطنية العُليا التي ذكرتها، وجعلها مفاتيح لأي عمل جماعي وسياسي وطني سُوداني، يقطع علينا طريق الاختلافات في التفاصيّل المُتعلقة بالصراع حول السُلطة ولأجلها فقط، وأن تكون السُلطة ما هي إلا أداة من أدوات العمل الوطني السُوداني المبنية على مُرتكزات مبادئنا التي توحدنا كأمة سودانية أولاً وبشكل سِلمي وعبر الحوار والتفاهم الوطني بين الجميّع، فالوصول لحركة وطنية سُودانية أساسه الأصيّل هو سودانيتنا أولاً وأخيراً وإنتماؤنا جميعاً لهذا السُودان بذات الدرجة وأن جميّع هذا السودان في كل مساحته وحدوده وأرضه يخصنا جميّعاً كسُودانيين متساوون في ذلك ومسؤولون عنه وعن استقراره وبنائه وتنميته وتقدمه.
أخيراً فإن إعادة بناء الحركة الوطنية السُودانية لتطلع بالدور الوطني العظيّم في الحاضر ولكنها تنظر للمُستقبل وتبني عليه لأجل واقع أفضل لبلادنا في كُل شئ، وحتى ننجح علينا جميعاً إدراك أن الدول والأمم العظيّمة تنهض وتقوم من بين الرماد وتعود، وعليه لا يأس ولا استسلام في إنتشال بلادنا من هذا الظرف الحالي والتوجه نحو المُستقبل بروح وطنية جديدة ومُتفائلة ولها القدرة على التحول الإيجابي والتغيير الكبير.
المصدر: صحيفة التغيير