منذ اليوم الأول لحرب الإبادة التي يتعرض لها شعبنا من قبل دولة الاحتلال، والمشهد السياسي والميداني يُدار عبر دوامة من التصريحات والمواقف المتكررة: حماس ترفض، حماس تدرس، حماس تتشاور، حماس تقبل. هذه المفردات التي ترافق كل استحقاق أو مبادرة، لم تعد تعكس مجرد اختلاف في الرؤى، بل باتت تكشف عن نزعة راسخة لدى حماس لإبقاء نفسها في قلب العاصفة الإعلامية، وكأن وجودها المستمر في واجهة الخبر هو الضمانة الوحيدة لبقائها لاعبًا مركزيًا، وهذا ما نلاحظه وما زلنا عبر قناة الجزيرة وضيوفها.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل هذا الحضور الإعلامي المتكرر يترجم إلى مكاسب سياسية حقيقية، ومكاسب تجنب شعبنا الإبادة، أم أنه مجرد استهلاك إعلامي يُضعف حالة الصمود ويعمّق السخط الشعبي؟
في منطق السياسة، لا تكفي البيانات ولا التصريحات لتشكيل واقع ملموس. غير أن حماس، في كثير من الأحيان، تُدير معاركها على الورق أكثر مما تديرها على الأرض. فبدلاً من تقديم حلول واقعية أو الدخول في مسارات تفاوضية مدروسة، تكتفي بإنتاج سلسلة من المواقف المتقلبة التي تمنحها حضورًا متواصلاً في الإعلام.
هذا الحضور قد يُرضي جمهورها الخاص والجمهور خارج معادلة الإبادة، ويُشعره بأنها “الفاعل الأهم”، لكنه في العمق يحوّلها إلى حركة أسيرة للكاميرا والميكروفون، بينما تبقى ملفات الإبادة معلّقة، لاعتبارات تكتيكية وفق رؤيتها لهذه الحرب وتداعياتها.
لا شك أن حماس تدرك أن الأطراف الإقليمية والدولية تتابع كل كلمة تصدر عنها. ولهذا، فإن تكرار عبارات “الرفض والقبول” و”الدراسة والتشاور”. غير أن هذا الأسلوب، وإن كان يوفّر تكتيكًا تفاوضيًا قصير المدى، إلا أنه يخلق صورة مشوشة أمام الشعب الفلسطيني نفسه، والذي يعيش مأساة لا يمكن نكران تفاصيلها. إن التركيز على محاولات تثبيت اسم “حماس” كعنوان دائم في نشرات الأخبار، دون موازنة ذلك مع التزامات وطنية حقيقية، وأفعال تقود إلى وقف الابادة وتداعياتها، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وهو ما نراه عندما ترفض اليوم وتقبل ما رفضته بعدة مدة، ونكون فيه قد خسرنا الآلاف من الشهداء. وهو ما يرسّخ الانطباع بأن حماس تسعى للهيمنة الرمزية حتى لو كان الثمن هذا الموت الذي لم نعد نستطيع حصره.
المطلوب اليوم ليس مجرد تغيير في الخطاب الإعلامي لحماس، بل مراجعة جذرية في فهمها لدورها الوطني بعيداً عن أي أي اصطفافات إقليمية شعبنا في غنى عنها. فالحضور الإعلامي قد يمنحها نفوذًا لحظيًا، لكنه لا يبني استراتيجية بعيدة المدى.
إن المصلحة الفلسطينية العليا تتطلب من حماس أن تعيد تعريف أولوياتها: هل هي جزء من مشروع وطني جامع يسعى للتحرر، أم أنها مجرد فاعل يخدم توجهات اطراف إقليمية وغيرها يسعى إلى إبقاء اسمه متصدّرًا مهما كان الثمن؟، ويكون قد ورط شعبنا ووضع شعبنا في إبادة. إن حماس اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن تستمر في إدارة حضور إعلامي صاخب كما تتبناه قناة الجزيرة يضمن لها البقاء في واجهة الأحداث، وإما أن تنتقل إلى مستوى الفعل السياسي الوطني الجامع، والتقدم خطوة إلى الخلف، والذي تتطلبه الحالة الوطنية الفلسطينية، فتكون جزءًا من الحل لا مجرد صدى يتكرر في نشرات الأخبار.
الحضور الإعلامي وحده لا يبني وطنًا، ولا يحرر أرضًا، ولا يوحد شعبًا. وما لم تنتقل الحركة من منطق “حماس ترفض وتقبل” وقف الموت”، مهما كان الثمن، فإنها ستبقى أسيرة لعبة الضوء، بينما تنهار مقومات صمود شعبنا في العتمة.