آخر تحديث:

منذ الثامن من شباط سنة 1963 ولليوم، تأرجح العراق بين عصابة “حزب” إستلمت السلطة بمباركة أمريكية وحكمت البلاد بمبدأ العصابة، لتتحوّل السلطة نفسها بعد حكمهم وبكلّ أجهزتها الى عصابة، وبين عصابات “أحزاب” إستلمت السلطة في التاسع من نيسان 2003 ، بمباركة أمريكية من جديد، لتعمل وعلى نهج البعث “المنحل”، في تحويل السلطة الى عصابات تتحكم بالوطن وثرواته وأرواح الناس.

وقبل الدخول في موضوعة العصابات التي تتحكّم بالواقع السياسي كبوابة للنهب المالي ، والإثراء غير المشروع، وأحتكار الثروة، والفساد، نرى أنّه من المفيد أن ننطلق من تطور المافيا الإيطالية كشكل من أشكال العصابات والجريمة المنظمّة، وكيفية نشاطها السياسي والمالي والأقتصادي، لنتبين إن كانت هناك أوجه شبه بين المافيا الإيطالية والمافيا العراقية، على الرغم من الفروقات الجوهرية بينهما. فالمافيا الإيطالية أثّرت وتؤثّر في حقل السياسة من خلال شرائها لسياسيين وقضاة وأصوات أنتخابية، لتمّد الطريق أمامها نحو الجريمة المنظمة والأثراء غير المشروع ، فيما المافيا العراقية تتربع على عرش السلطة، لترسم سياسة البلاد، وتتحكم بالمال والأقتصاد وبالسلطات الأربع. ومن الضروري الألتفات الى أنّ المافيا الإيطالية بدأت كعصابات عكس المافيا العراقية التي بدأت كأحزاب وتنظيمات سياسية وزعامات دينية وعشائرية ، وأنتهت كعصابات.

على عكس المافيا (العصابات) العراقية التي لا تمتلك جذور يعتدّ بها في العراق الحديث، فأنّ المافيا الإيطالية بدأت جذورها في الطبقة المتوسطة وليس بين الكادحين والفقراء، وهذا ما يشير إليه المؤرخ جان إيف فريتينييه قائلا من أنّ:”المافيا لم تولد بين فقراء الريف، وإنما في المناطق المزدهرة المحيطة بـ (باليرمو) حيث أعاد بعض أفراد البرجوازية الجديدة المحرومين من المنافذ الصناعية تدوير ممارسات إقطاعية استغلالية في مجتمع ليبرالي” وقد أشار فريتينيه الى “أنّ أحداث القرن العشرين النضال ضد النقابات الزراعية ثم الشيوعية منحت هذه العصابات الإجرامية دعماً قويًّا، وبالذات خلال الحرب الباردة”، وسنتناول تجربة المافيا/ العصابات العراقية ودورها في “النضال” ضد الأصوات الوطنية وقمعها بالإغتيالات أحيانا، وبالقوّات الأمنية للدولة التي تتحكم بها المافيا نفسها عن طريق ميليشياتها المسلّحة لاحقا كما دورهم في قمع إنتفاضة تشرين، وكسر التجمعات المطالبة بحقوقها كما تجمعات المعلمين والأكاديميين والخريجين، وغيرهم في بلد تحوّلت فيه الديموقراطية الى كلمة لا معنى لها مطلقا.

للمافيا في البلدان المختلفة اليوم أدوارا سياسية كبيرة، ممّا يسمح لها بالتأثير على السياسات الداخلية لتلك البلدان وتوجيهها بما يخدم مصالحها، ونجحت المافيا في بعض البلدان من شراء أصوات سياسية مهمة في هذا السبيل، كما رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق جوليو أندريوتي الذي حوكم بتهمة التعاون مع المافيا، أو كما تعاون الرئيس التركي أردوغان مع المافيا التركية عن طريق أهم زعماء الجريمة المنظمّة المدعو كورساد يلماز العضو البارز في منظمة الذئاب الرمادية، والذي أطلق أردوغان سراحه لتحتل الدولة العميقة مكانها في السياسة التركية. ولأننا نتحدث عن أدوار المافيا السياسية وتأثيرها في العالم، نرى أن نعود لتقرير خطير نشرته مجلة نيوزويك الأمريكية في الثاني عشر من كانون الثاني/ يناير من العام 2019 بقلم الصحفي جين ستاين، حول علاقات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعصابات المافيا إذ تساءلت المجلّة “عمّا إذا كان (ترامب) لا يزال مرتبطا بها بعد أن تولى سدة الحكم في الولايات المتحدة”!؟ وقد كتب مراسل صحفي أمريكي يدعى واين باريت في نفس الفترة، من أنّ الرئيس الأمريكي “استأجر شركات مرتبطة بالمافيا لتشييد برج ترامب ومبنى ترامب بلازا للشقق السكنية في حي مانهاتن بنيويورك، حيث اشترى الخرسانة بسعر غال من شركة يديرها زعيما المافيا أنتوني ساليرنو وبول كاستيلانو”.

لعبت وتلعب المافيا الإيطالية دورا كبيرا في شراء أصوات الناخبين، كي يصوّتوا لسياسي معيّن يتعهد بتنفيذ سياساتهم وينفّذ مصالحهم ويؤمّن نفوذهم في مجالات عديدة. وقد أستطاعت المافيا عن هذا الطريق مع الرشوة والأتاوات وغيرها من طرق التهديد والأبتزاز، من بسط هيمنتها لحدود بعيدة على سوق العقارات وشركات الأستيراد والتصدير وغيرها من المجالات الحياتية ومنها هيمنتها على شبكات تهريب المخدرات وسيطرتها على أندية القمار ودور الدعارة والملاهي، حتى وصل الأمر بها لشراء أصوات أنتخابية ومنها شرائها أصوات ناخبين للمرشّح دومنيكو تاليني الذي حصل على أعلى الأصوات في الأنتخابات الإقليمية التي جرت في العام 2014 والذي سهّل لها وهي التي أخترقت القطّاع الصحّي في جنوب إيطاليا، هيمنتها على مستشفيات ومذاخر أدوية وصيدليات. وفي هذا الصدد صرّح المطلوب رقم واحد للمافيا المدّعي العام نيكولا غراتيري دون أن يكشف عن التفاصيل قائلا : “ثمة قضايا كثيرة تتعلق بالفساد في القطاع الصحي، خاصة وأن هذا القطاع تتدفق في قنواته أموال حكومية كثيرة” وأوضح أن “القطاع يشكل نحو 70% من ميزانية الأقاليم، الأمر الذي يجعله جذابا للمافيا”، وأشار الكاتب والصحفي والمؤلف روبرتو سافيانو في مقال له الى ضعف الدولة وتغوّل المافيا قائلا بأنّ: “أي نظام لا تعمل آلياته، هو بالضبط المكان الذي تدمر فيه المافيا كل شيء، وبالتالي تحقق انتصارا خاصا بها عن طريق ما تمتلكه من سيولة مالية ووسائل السيطرة والتنظيم”.

قد نجد أكثر من مافيا أو عصابة منظمّة في البلد الواحد، وغالبا ما تتقاتل هذا المافيات أو العصابات فيما بينها للسيطرة على مناطق نفوذ غيرها أو مناطق نفوذ جديدة لتوسيع نشاطها الأجرامي، أو تصل أحيانا الى تفاهمات حول مناطق النفوذ وشكل النشاط، ما يدفعها بالنهاية لهدنة متفّفق عليها لتوزيع أشكال نشاطها على شكل حصص لإرضاء الجميع والأبتعاد عن الأقتتال. وما نلاحظه في المافيات المكسيكية على سبيل المثال وغيرها من مافيات بلدان امريكا اللاتينية وبلدان أخرى، هو إنظمام ضباط شرطة في الخدمة أو خارجها من المتقاعدين لهذه العصابات الأجرامية وتقديم خدماتهم لها، كونها الطريق الأسهل للإثراء السريع. لننتقل الآن الى النموذج العراقي للمافيا لمقارنته مع المافيا الإيطالية وغيرها من المافيات لنرى إن كانت هناك أوجه شبه بين الأثنتين، خصوصا وأنّ المافيا/ العصابات العراقية إبتلعت الدولة، لتصبح الدولة العراقية في ظل نشاط العصابات التصاعدي والدولة العميقة اللتان أمسيتا متماهيتين في تأثيرهما ونشاطاتهما وسياساتهما مافيا رسمية وبقوة القانون “الديموقراطي” بعد أن وصلت العصابات الى البرلمان خلافا للدستور الذي أقّرته المافيا نفسها، والتي لازالت تطالب بحصّة أكبر في البرلمان الذي لم يقدّم أية خدمة للشعب العراقي منذ أوّل دورة له ولليوم.

أنّ نظام المحاصصة الحالي ورث الكثير من الخراب البعثي ومنه العصابات والمافيات التي تطوّرت مقارنة بالنظام البعثي كثيرا، نتيجة الأرتفاع الهائل في مداخيل البلاد نتيجة أرتفاع أسعار النفط. وإن كان النظام البعثي قد إستثمر جزء من خزينة البلاد في تطوّر التعليم وبناء نظام صحي مقبول لحدود، وتطوير قطاع الصناعات الخفيفة وبناء معامل ومصانع خياطة وإسمنت والبان وجلود وغيرها، قبل أن تنتهي كلها خلال مغامراته العسكرية الرعناء منذ العام 1980 لحين “رحيله” في نيسان 2003. أمّا النظام الحالي، فلم يعمل على إعادة الحياة لتلك المعامل والمصانع، بل تدهورت الخدمات، ووصل التعليم وقطّاع الصحّة والكهرباء، وجميع مرافق الحياة، في عهده الى الحضيض.

لقد إنتشر الفساد في جميع مرافق الدولة والمجتمع، خصوصا بعد الحصار الأمريكي للبلاد، ونتيجة لهذا الفساد، ومع تفشّي الفقر، نشطت عصابات الجريمة المنظمة، والتي تكوّنت من أفرد من قاع المجتمع، بدأوا كعصابات إجرامية صغيرة ، لكنّهم سرعان ما دخلوا في علاقات تعاون مع السلطة تحت تأثير الخوف منها.

فهيمنت مافيا السلطة على هذه العصابات، التي بدأت تنشط مستفيدة من حماية شخصيات سياسية، أو مقربة من النظام وعائلته. وقد حصلت تلك العصابات، من خلال هذا التعاون، على جزء يسير من الاموال، مقارنة بما كان يجنيه أفراد من عائلة الدكتاتوروالدائرة الضيقة المحيطة به، من أصحاب الصلات القرابية أو المناطقية به.

إن كانت عصابات المافيا تتعامل فيما بينها ضمن مناطق النفوذ المشتركة، وفق تفاهمات تؤدي الى توزيع الحصص من نشاطاتها ومناطق نفوذها، فأنّ سلطات ما بعد الاحتلال مثّلت ولا تزال تمثّل المافيا الحقيقية، إذ تعتمد نظام محاصصة طائفي/ قومي في إدارة البلاد وقيادتها.

وعلى عكس المافيا الإيطالية ، التي نشأت من الطبقة الوسطى ودخلت عالم السياسة عبر شراء السياسيين والصحفيين والقضاة، فأنّ المافيا العراقية بدأت كأحزاب وتنظيمات سياسية ثم تحوّلت الى مافيا. معتمدة على عصابات تمتد بعضها في جذورها الى النظام البعثي السابق، وأخرى جاءت من قاع المجتمع ونشطت تحت حماية السلطة، ووفق مبدأ ” حصّة السلّة” أو السلال المتعارف عليه سياسيا.

من ابرز الأمثلة الحيّة على دور السلطة العراقية/ المافيا في العراق، هيمنتها على القطّاع الصحّي، بما يشمله من مستشفيات حكومية وأهلية تتجول بين أروقتهامظاهر الإهمال والموت، الى جانب الصيدليات والمختبرات والمذاخر والأدوية، والكثير منها فاسد أو منتهي الصلاحية.

كما أسهمت المافيا في تراجع التعليم بمختلف مستوياته، رغم الأنتشار الواسع لرياض الأطفال والمدارس والمعاهد والجامعات الأهلية، حيث باتت الجامعات الحكومية العراقية اليوم تحتل المراتب الأخيرة في التصنيفات العالمية للجامعات.

لأنّ السلطة في العراق اليوم سلطة محاصصة، فأنها ولكي تستمر في حكمها تضطر بالضرورة أن تتحول الى سلطة مافيا/ عصابة، تهدف الى جني اكبر قدر ممكن من المال، الذي تقوم بتوزيعه لشراء اصوات انتخابية لمرشّحيها، لتستمر في السلطة، وهذا ما تقوم به في كل انتخابات.

وبما أنّ الدولة تحوّلت الى جهاز بيروقراطي فاسد، تقوده أحزاب وعوائل حاكمة ، فأنّ محاربة الجريمة والفساد أمر لا تستطيع القيام به. فالقضاء العراقي والميليشيات و الكثيرين من أعضاء المؤسستين التشريعية والتتفيذية ليسوا مجرّد جزء من نسيج فاسد، بل هم النسيج الفاسد نفسه.

وللمافيا في العراق أدوارا سياسية غاية في الخطورة، فهي المسؤولة عن قمع تظاهرات وتجمعات وأنتفاضات شعبنا، ومنها إنتفاضة تشرين التي أغرقوها بالدماء، كما لها ها دور كبير في إغتيالات طالت سياسيين وصحافيين وأطباء وأكاديميين وتهديد آخرين.

يقول لويجي غيتي الذي كان وكيلا لوزارة الداخلية الإيطالية في العام 2019 و قاد إستراتيجية محاربة المافيا وقتها: “نحن الآن أمام مافيا غنية تشتري الذمم، وتسعى قبل كل شيء للضغط على الشهود وشراء صمتهم أو تعديل شهاداتهم”. والكارثة عندنا في العراق اليوم هي أننا أمام مافيا أكثر من غنية تشتري وتبيع كل شيء، فهي تشتري ذمم قضاة ليغيّروا نتائج الأنتخابات أو يتسترّوا على جرائم كبيرة بتبرئة رجال مافيا يسرقون مليارات الدولارات، أو إطلاق سراح قتلة متلبسين بالجرم المشهود، أو يتواطأون مع رجال مافيا يبيعون أراض ومياه عراقية.

إننا اليوم أمام عصابات مسلّحة بـ “القانون” الذي تعتمد عليه في نهبها للمال العام. إننا أمام مافيا تشتري صحفيين وإعلاميين ليزوّقوا الوجه القبيح للسلطة، إننا أمام مافيا تزرع الموت في المستشفيات والطرق المهملة. مافيا مسؤولة عن ضياع أجيال من شبابنا المدمن على مخدرات تستوردها وتوزّعها عن طريق عصاباتها دون أن تمارس”الدولة” دورها في إنقاذ المجتمع، وأمام مافيا تزرع الموت في المستشفيات والطرق المهملة، ويمكننا القول من إننا نعيش اليوم عهد المافيا بكل جزئياته.

بعض المافيات تقوم، وفق التجربة الإيطالية “أمّ المافيا” بتطوير مناطق نفوذها كجزء من شراء الولاء،كما في باليرمو الصقليّة وغيرها، الّا أن العصابات وكارتلات المخدرّات لا تقوم بتطوير مناطق نفوذها ببناء وتطوير مناطق نفوذها كما المافيا المكسيكية والإفريقية، ويبدو أنّ الخراب الذي تعيشه البلاد وأنهيار الخدمات من أن المافيا التي عندنا شبيهه بالمافيا المكسيكية.

ختاما نطرح عنوان المقالة كسؤال، هل السلطة في العراق عصابة، أم عصابة أستلمت سلطة..؟

وفي كلتا الحالتين نحن في ظروف سياسية غير مؤاتية لإخراج البلاد من حكم العصابات، بمواجهة سلطة العصابة في الإعلام والساحات وتنظيم الناس ودفعهم للتظاهر والأعتصام والأضراب، وصولا الى أعلان العصيان المدني. فالمافيا لن تتنازل عن مصالحها بالسهولة التي نتوقعها، إننا اليوم أمام خيارين أمّا البلاد ونهضتها أو الخراب.

شاركها.