أمد/ في لحظات الأزمات الكبرى، تُختبر القيادات بقدرتها على اتخاذ القرار لا بكثرة مناوراتها. وهنا تتكشف المعضلة الفلسطينية الأعمق.
في مسار المفاوضات الراهنة، يدرك الإسرائيلي تمامًا كيف يوصل حماس إلى النقطة الفاصلة: قرار بنعم أو لا. ليس لأنها تملك حرية الاختيار، بل لأن طبيعة المعادلة التي يرسمها العدو لا تحتمل منطقة رمادية. هو يعرف مسبقًا أن أي إجابة ستعني فشلًا جديدًا، ومن ثم تحميل المسؤولية لحماس ولغزة مجددًا.
المشكلة الأعمق ليست في تكتيك إسرائيل فحسب، بل في بنية التفكير السياسي لدى حماس. فالحركة مشبعة بروح المناورة: ترفع السقف حينًا، وتلوّح بالمبادرات حينًا آخر، وتُكثر من التصعيد اللفظي والسياسي. لكنها في الجوهر، لا تمتلك خيارات حقيقية تستطيع التحرك من خلالها.
المناورة السياسية تصبح أداة فاعلة حين تكون هناك بدائل على الطاولة: خطط بديلة، أوراق قوة، تحالفات يمكن تفعيلها أو مسارات موازية يمكن فتحها. هذا ما فعلته منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو مثلًا، حين تحركت من موقع العجز العسكري إلى خيار الحل المرحلي، فكسرت حالة الجمود. ورغم الانتقادات القاسية التي وُجّهت لذلك المسار، إلا أنه كان خيارًا واضحًا نقلها من مرحلة إلى أخرى.
أما حماس اليوم، فهي تناور بلا خيارات:
لا تستطيع القبول بالطرح الإسرائيلي من دون أن تفقد ما تبقى لها من شرعية أمام جمهورها.
ولا تستطيع الرفض من دون أن تتحمل مسؤولية استمرار الحرب والمأساة الإنسانية.
ولا تملك بديلًا ثالثًا، أو رؤية انتقالية تفتح الطريق أمام مخرج واقعي.
والنتيجة أن الحركة تُحاصر نفسها في مربعها، بينما ينجح الإسرائيلي في إظهارها أمام العالم كجهة معطّلة، ويواصل فرض الوقائع على الأرض.
إن أخطر ما في المشهد أن المناورة، حين تفقد غطاء الخيارات، تتحول من فن للسياسة إلى فخ قاتل، يستهلك الحركة ويستنزف الشعب. وهذا بالضبط ما يجري اليوم: حماس أسيرة مناورات بلا خيارات، تدفع ثمنها غزة من دمها وخرابها ومستقبلها.
وبقدر ما تتحمل حماس المسؤولية المباشرة عن إصرارها على إدارة المشهد بهذا النهج، فإن القوى الفلسطينية الأخرى تتحمل بدورها مسؤولية لا تقل خطورة، حين تلتزم الصمت أو تكتفي بالمراقبة، وكأن الكارثة التي تعصف بأهل غزة شأن داخلي لحماس وحدها. إن حياة الناس وكرامتهم وحقهم في الأمان ليست ورقة تفاوضية، بل واجب وطني وأخلاقي على كل قوة فلسطينية تتحرك باسم هذا الشعب.