أمد/ يعيش العالم اليوم حالة انقسام واضحة بين مستويين متباينين: الحكومات من جهة، والشعوب من جهة أخرى. هذا الانقسام ليس جديدًا، لكنه بات في زماننا أخطر من أي وقت مضى، إذ تحوّل إلى أداة تُستغل من قبل الخصوم لإضعاف الدول من الداخل.
الحكومات تُدار بعقل بارد لا يعرف العاطفة، ولا يحتكم إلا للمعطيات والأرقام والحسابات الدقيقة. هي كمن يسير على حافة هاوية، يوازن بين خيارات كلها صعبة، ويحسب كل خطوة باعتبارها قد تعني حياة أو موتًا للدولة. وظيفتها الأولى والأخيرة حماية جسد الدولة وسط عواصف سياسية واقتصادية وأمنية إقليمية ودولية.
أما الشعوب، فهي محكومة بالمشاعر والانفعالات، ترى فقط السطح من المشهد: أزمة معيشية خانقة، ارتفاع أسعار، أو قرارات مفاجئة تثقل كاهلها. ومن هنا تتولد الشكوك: لماذا تفعل الحكومة هذا؟ لماذا تُضيّق علينا؟ لماذا تبدو بعيدة عن همومنا؟ وهكذا يصبح الحكم على السياسات قائمًا على الانفعال لا على إدراك التعقيدات.
هذه الفجوة بين الحكومات والشعوب تفتح الباب أخطر الأبواب: أن يتحوّل الشعب ذاته إلى أداة في يد أعداء وطنه. الإعلام الموجه، الحملات الممولة، والتصريحات المغرضة كلها تُستثمر لإذكاء الشكوك الطبيعية لدى المواطن، وتحويلها إلى غضب يُقوّض الثقة في الدولة. وبذلك لا يحتاج العدو إلى طلقة واحدة لإضعاف خصمه، بل يكفيه أن يزرع بذور الفتنة في داخله.
تُعد الحالة المصرية مثالًا صارخًا على هذه المعادلة المعقدة. فالدولة المصرية تخوض منذ سنوات معارك وجودية على أكثر من جبهة: مواجهة الإرهاب، تحديات مائية مصيرية مرتبطة بسد النهضة، ضغوط اقتصادية خارجية، وتوازنات إقليمية معقدة.
الحكومة تنظر إلى الصورة الكبرى، وتتحرك وفق حسابات دقيقة في صراع بقاء. لكن المواطن يرى فقط غلاء الأسعار أو الإجراءات الصارمة. وهنا يأتي الإعلام الممول ليُصور القرارات الحكومية كقمع أو فساد، ويُحرض الرأي العام الداخلي والخارجي على الدولة.
المعادلة إذن شديدة الخطورة: حكومة تُتهم بالاستبداد لأنها لا تكشف كل ما تعرفه، وشعب يتهمها بالفشل لأنه لا يرى إلا سطح الصورة. وبين هذا وذاك يتحوّل الوطن إلى ساحة مفتوحة أمام الأعداء.
إن استمرار هذه الفجوة يهدد الاستقرار الداخلي ويُضعف قدرة الدول على مواجهة التحديات. والسؤال المصيري: هل نترك العاطفة تقودنا إلى أن نصبح أدوات بيد خصوم أوطاننا؟ أم نرتقي بالوعي، ونعزز الثقة، ونفهم ما يدور خلف الكواليس؟
إنها ليست قضية فكرية أو نظرية، بل مسألة بقاء.