عمار الباقر
في مقالات سابقة في هذه السلسلة، تناولنا نظرية الأمن القومي السوداني وأوجه القصور التي تعتريها، وأوضحنا أن هذه النظرية، في جوهرها، ليست مجرد سياسة حكومية أو تدابير لحماية السلطة الحاكمة، بل هي رؤية وطنية شاملة تشترك فيها القواعد الشعبية على أوسع نطاق، بما يحقق إجماعاً وطنياً حول أولويات الدولة وأهدافها الاستراتيجية.
إن حصر الأمن القومي في إطار حكومي ضيق يشكل خطراً، إذ يحوله إلى أداة لحماية بقاء النخبة الحاكمة بدلاً من أن يكون أساساً لصون الوطن ومصالح مواطنيه.
في هذا المقال، نتناول الخطوات الأولى لإعادة صياغة نظرية الأمن القومي على أسس صحيحة، بحيث تلبي احتياجات المواطن والمجتمع والدولة، وتوحد القواعد الشعبية حول رؤية واضحة لطبيعة الدولة وواجباتها في حماية الأرض والموارد وضمان مصالح مختلف المجموعات السكانية.
إننا نتحدث عن نظرية للأمن القومي قادرة على وقف الحرب الدائرة اليوم، ووضع أسس تمنع اندلاع أي حرب مستقبلية.
أولاً: الأمن القومي رؤية شعبية لا نخبوية
يجب التأكيد أن نظرية الأمن القومي ليست وثيقة تصوغها النخب الأكاديمية أو السياسية أو العسكرية في غرف مغلقة، بل هي ثمرة حوار مجتمعي واسع بين مختلف الفئات الشعبية.
وتتمثل الخطوة الأولى لبناء هذه النظرية في فتح حوار شامل يشارك فيه المواطنون من مختلف الشرائح حول الدور الداخلي المطلوب من الدولة تجاه شعبها، والدور الخارجي المنوط بها بين الدول.
هذا الحوار الشعبي هو الذي يفرز الرؤية التي تتبناها النخب وتترجمها في شكل نظرية للأمن القومي، لا العكس. ويقاس نجاح هذا الحوار بقدرته على الوصول إلى إجماع وطني حول ثوابت وشروط الأمن القومي، وهو أمر لا يتحقق إلا بشرطين أساسيين:
وجود رؤية تنموية شاملة تضع البلاد على مسار التنمية، وتُشرك جميع الطبقات والفئات الاجتماعية في نشاط إنتاجي يلبّي الحاجات الأساسية للسكان.
إصلاح العملية السياسية بما يضمن إرادة وطنية حقيقية وإطاراً قانونياً يوجه أجهزة الدولة لخدمة هذه الرؤية التنموية، بحيث تأتي نظرية الأمن القومي كحامٍ ورافعٍ لها.
ثانياً: التنمية شرط للأمن القومي واستقرار الحكم
لن تتمكن أي سلطة، مدنية كانت أو عسكرية، من الحكم بصورة مستقرة والخروج الآمن من التجربة، ما لم تمتلك رؤية تنموية واضحة تحظى بقبول شعبي واسع. فمنذ الاستقلال عام 1956، فشلت جميع الحكومات السودانية في تحقيق هذا الشرط، مما أدى إلى اهتزاز شرعيتها وفشلها في الخروج من الحكم بسلاسة.
إن غياب رؤية تنموية متماسكة كان سبباً رئيسياً في فساد الممارسة السياسية، سواء في فترات الحكم المدني أو العسكري. فالتأييد الشعبي لأي حكومة مرهون بقدرتها على إحداث تنمية حقيقية، بينما يؤدي الفشل التنموي حتماً إلى فقدان الشرعية. وللأسف، لجأت معظم القوى السياسية إلى الشعارات الدينية أو الجهوية أو الأيديولوجية بدلاً من تقديم برامج تنموية عملية.
ثالثاً: التنمية مدخل لإزالة التهميش
من منظور أمني حديث، فإن الحديث عن منح سكان المناطق المهمشة حقوقهم يجب أن يبدأ بسؤال جوهري: كيف يمكننا تنمية هذه المناطق؟ فالتهميش السياسي والثقافي لا يمكن إزالته إلا عبر التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
أما الحديث عن إزالة التهميش بمعزل عن التنمية، فليس سوى خطاب انتهازي يسعى لتوظيف القضية للوصول إلى السلطة.
كما أن محاولة تحقيق الأمن والاستقرار في أي منطقة عبر الوسائل العسكرية أو الأمنية فقط، ودون تنمية، هو إهدار للوقت، وهو عين ما تمارسه أطراف الحرب اليوم من القادة العسكريون وقادة الميليشيات المجموعات المحيطة بهم في كل من بورتسودان ونيالا والأمر قابل للتمدد.
خاتمة
إن التنمية هي الأساس الصلب للأمن والاستقرار، وهي مصدر الشرعية السياسية لأي سلطة حاكمة. فلا يمكن صياغة نظرية للأمن القومي تحافظ على وحدة البلاد وسلامة شعبها دون أن تستند إلى رؤية تنموية واضحة ومتكاملة
المصدر: صحيفة الراكوبة