أنشأ البريطانيون ثكناتهم العسكرية قرب المدن الكبرى، وعلى رأسها الخرطوم، للسيطرة على المراكز الإدارية والحضرية مستفيدين من البنية التحتية المخصصة للتحركات العسكرية مثل السكك الحديدية والنقل النهري..

التغيير: كمبالا

أعادت حرب 15 أبريل، 2023، بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى الواجهة جدلاً قديماً حول بقاء الثكنات العسكرية داخل العاصمة والمدن الكبرى في السودان، بعدما تحولت الأحياء السكنية إلى ميادين مواجهة دفع المدنيين ثمنها الأكبر من دمائهم وممتلكاتهم.

إرث تاريخي وسياسي

تمركز الجيش داخل الأحياء السكنية لم يكن وليد الصدفة، بل امتداداً لإرث تاريخي وسياسي وأمني يعود إلى الحقبة الاستعمارية، كما يوضح الضابط السابق في القوات المسلحة والناشط السياسي، أسعد التاي. فقد أنشأ البريطانيون ثكناتهم قرب المدن الكبرى، وعلى رأسها الخرطوم، للسيطرة على المراكز الإدارية والحضرية مستفيدين من البنية التحتية المخصصة للتحركات العسكرية مثل السكك الحديدية والنقل النهري. وبعد الاستقلال، استمر هذا التقليد؛ لأن السلطة كانت بيد العسكريين الذين لم يروا ضرورة للابتعاد عن مركز الدولة.

ويتفق معه خبير إدارة الأزمات والتفاوض بمركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية، اللواء أمين إسماعيل مجذوب، مؤكداً أن وجود الثكنات العسكرية داخل الخرطوم والمدن الكبرى امتداد لتاريخ طويل. ويوضح في حديثه مع «التغيير» أن ستينيات القرن الماضي شهدت تخصيص مناطق خالية من السكان مثل القيادة العامة وسلاح المدرعات لتكون معسكرات للقوات المسلحة، غير أن التوسع العمراني والزيادة السكانية أحاطت بهذه المواقع من جميع الجهات، خاصة في أمدرمان وبحري.

وعلى الرغم من التجارب القاسية التي مر بها السودان، مثل الغزو الليبي عام 1976 والانقلابات العسكرية المتكررة، لم تُحْسم مسألة نقل هذه المعسكرات إلى خارج المدن، رغم إدراك خطورتها.

 

ستينيات القرن الماضي شهدت تخصيص مناطق خالية من السكان مثل القيادة العامة وسلاح المدرعات

خبير إدارة الأزمات والتفاوض، أمين إسماعيل

 

وأشار مجذوب إلى خطة وُضعت عام 1991 لنقل بعض المواقع العسكرية إلى غرب أمدرمان وشرق النيل، لكن التنفيذ تعثر بسبب الاحتياجات المادية الكبيرة لبناء مدن متكاملة تشمل خدمات أساسية مثل المساكن والمدارس والمستشفيات، إضافة إلى مشروع مطار الخرطوم الجديد.

الدوافع السياسية

يؤكد التاي خلال مقابلته مع «التغيير» أن الاعتبارات السياسية أدت دوراً محورياً في استمرار الوجود العسكري داخل قلب المدن، إذ بقي الجيش بالقرب من القيادة العامة والقصر الجمهوري والمطار لضمان التدخل السريع ضد أي اضطرابات أو محاولات انقلاب، وللحفاظ على رمز السيادة في العاصمة. كما سهّل تمركز الوحدات وسط الأحياء مراقبة الحراك الشعبي واحتواء الانتفاضات، فضلاً عن قربها من المرافق الحيوية لضمان سرعة الانتشار لحماية المؤسسات السيادية والجسور والوزارات. ومن الناحية اللوجستية، قلل هذا التمركز من الحاجة إلى بناء قواعد جديدة بعيدة عن شبكة الطرق والمطارات والمستشفيات.

حين تتحول المدن إلى ثكنات

رغم اختلاف زوايا التحليل، يتفق الخبراء على أن استمرار الثكنات العسكرية داخل المدن يشكل تهديداً مباشراً للمدنيين وللجيش نفسه. فقد أكد التاي أن اندلاع حرب 15″ أبريل” جعل المدنيين في قلب المعارك، فدفعوا ثمناً باهظاً من ضحايا وانتهاكات ونزوح واسع، بينما أصبح الجيش مقيد الحركة مقارنة بالوحدات المتمركزة بعيداً عن الكتل السكنية، وفقد جزءاً من التعاطف الشعبي نتيجة تحويل الأحياء إلى ساحات قتال. ويرى مجذوب أن القوات المهاجمة استغلت المدنيين أحياناً كدروع بشرية، ما ضاعف من حجم الكارثة الإنسانية.

يتفق الخبراء على أن استمرار الثكنات العسكرية داخل المدن يشكل تهديداً مباشراً للمدنيين وللجيش نفسه

أما رئيس المكتب التنفيذي لحزب التحالف الوطني السوداني، اللواء (م) كمال إسماعيل، فيرى أن مؤشر الحرب الفعلي بدأ قبل “15 أبريل”، عندما قررت قيادة الجيش بناء جدار حول القيادة العامة، وهو ما اعتبره دلالة على استشعار خطر داخلي.

ويؤكد  لـ«التغيير» أن طبيعة المعركة فرضت وجود القوات داخل الأحياء السكنية، لتصبح حياة المدنيين وقود الحرب. وشدد على أن استخدام الطيران والمدفعية الثقيلة في بيئة حضرية يجعل من المدنيين دروعاً بشرية، لافتاً إلى أن حرب المدن محرمة دولياً وأخلاقياً لأنها كارثة أمنية وإنسانية لا يتحمل كلفتها سوى المواطنين العزل.

قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وسط جنود من الجيش السوداني

البدائل المستقبلية

يرى اللواء مجذوب أن استمرار تمركز القوات المسلحة داخل المدن يشكل خطراً كبيراً على المدنيين، وعلى الأمن القومي، داعياً إلى الإسراع في تنفيذ خطة نقل المعسكرات ومقار القيادة إلى مناطق طرفية بعيدة عن الكثافة السكانية، على أن تُبنى ضمن مدن متكاملة تتوفر فيها الخدمات الأساسية. وأكد أن هذا التوجه يخدم أمن المدنيين، ويعزز الاستقرار الوطني، مشيراً إلى تشكيل لجنة حالياً لإزالة المظاهر المسلحة من العاصمة، تتضمن خطة لنقل المؤسسات العسكرية والنظامية إلى الأطراف.

في المقابل، يقترح التاي، خيارات عملية مثل إنشاء أحزمة عسكرية على أطراف الخرطوم والمدن الكبرى، وإعادة توزيع القوات في قواعد بعيدة عن الكثافة السكانية مثل كرري وجبل أولياء، مع الإبقاء فقط على وحدات تدخل سريع صغيرة داخل العاصمة.

ويرى أن القواعد الجوية والمناطق الصحراوية يمكن أن تُستغل لمعسكرات مركزية تقلل من الخسائر في حال اندلاع صراع، فيما يمكن تحويل المواقع الحالية داخل المدن إلى مرافق مدنية كالجامعات أو مشاريع الإسكان بعد إخلائها.

وبينما لا تزال آثار الحرب ماثلة، يظل تنفيذ هذه الخطط مرهوناً بقدرة الدولة على تجاوز التحديات السياسية والمالية، ووضع رؤية أمنية جديدة تفصل بين الحياة المدنية والعسكرية، بما يضمن حماية السكان واستقرار المدن.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.