علاء خيراوي

في ذاكرة الثورات، لا تُقاس القيادات بما حملته من شهادات أو بما زيّن سيرتها من ألقاب، بل بما أنجزته وهي تواجه عواصف الواقع المليء بالدم والحديد. وهكذا سيبقى اسم عبد الله حمدوك في وجدان السودانيين، اسمًا عالقًا بين الأمل والخذلان، بين صورة الرجل المدني الذي دخل القصر محمولًا على أكتاف الجماهير العطشى للحرية، وبين واقعه كرئيس وزراء محاصر بالجنرالات، ومكبّل بأشباح الإسلاميين، وعاجز عن مد يده إلى جذور الدولة العميقة ليقتلعها.

لقد مثّل لحظة تاريخية خاطفة، حملت وعدًا كبيرًا، وانتهت إلى مرارة أكبر، كاشفةً أن ثورات الشعوب لا تنجو بالرموز وحدها، بل تحتاج إلى إرادة سياسية صلبة لا تهادن المستبدين ولا تساوم القتلة.

لم يكن الدكتور عبد الله حمدوك مجرد موظف دولي جرى استدعاؤه لإدارة مرحلة انتقالية بعد سقوط البشير، بل بدا في أعين السودانيين  لحظة قدومه كرمز مدني نادر، يحمل معه لغة جديدة في الخطاب، هادئة، رزينة، بعيدة عن شعارات الساسة المعتادة. جاء من دهاليز الأمم المتحدة محمّلًا بسمعة تكنوقراط يعرف دهاليز الاقتصاد والسياسات الدولية، فعقد الناس عليه آمالًا جسامًا بأن يكون القاطرة التي تجرّ السودان من وحل الانقلاب والفساد إلى أفق الدولة الحديثة.

لكن بين تلك الصورة التي رسمها الشارع المتعطش للمدنية، وبين الواقع المليء بالعسكر والمؤامرات والدولة العميقة، انكشفت الفجوة سريعًا. نجح حمدوك في إخراج السودان من عزلته الدولية، فأزال اسمه من قائمة الإرهاب، وفتح أبواب الدعم والإعفاء من الديون، ووقّع اتفاقات أعادت البلاد إلى الخارطة الدبلوماسية.

غير أنّ هذه النجاحات الخارجية لم
تترجم إلى إنجاز داخلي ملموس. فالاقتصاد ظلّ أسير الانهيار، والأسعار تصاعدت بجنون، والسياسات التي تبنّاها بتوصية من البنك الدولي فاقمت معاناة المواطن حتى كاد يلعن يوم خروج الملايين إلى الشوارع طلبًا للحرية.

ثم جاء اتفاق جوبا للسلام، وهو على أهميته، لم يكن سوى وثيقة مليئة بالثغرات، صاغتها المحاصصات أكثر مما صاغتها الرؤية الوطنية. حمل الاتفاق أسماء كبيرة وبنودًا عريضة، لكنه لم يوقف النزيف في الأطراف، ولم يحقق سلامًا شاملاً. كان سلامًا ناقصًا، هشًّا، سرعان ما تحوّل إلى عبء على المرحلة الانتقالية بدل أن يكون رافعة لها.

ولعل أخطر ما وُجه إلى حمدوك من نقد، أنّه لم يملك شجاعة مواجهة العسكر بالقدر الكافي. ظلّ يوازن بين واجب الثورة ومتطلبات السلطة، فخسر الاثنين معًا. وعندما أطاح به انقلاب ٢٥ أكتوبر، وقف الناس يتوقعون منه أن يرفض العودة إلى قصرٍ تحكمه البنادق، لكنه عاد باتفاق ٢١ نوفمبر مع البرهان، في خطوة اعتبرها الشارع خيانة لمبادئ الثورة وشرعنة لانقلابها. ومنذ تلك اللحظة سقطت صورته عند لجان المقاومة والصف الثوري الذي كان يراه رمزًا للمدنية.

حمدوك في نهاية الأمر لم يكن شيطانًا ولا ملاكاً، بل رجلًا بقدر كبير من النوايا الحسنة، لكنه افتقد أدوات المواجهة وسط غابة من الذئاب. ترك للسودان إرثًا متناقضًا، فتح الباب خارجيًا لكنه أغلقه داخليًا. أعطى العالم صورة لرجل دولة، لكنه عجز عن أن يكون قائد ثورة. لذلك ظل اسمه محفورًا بين صفحتين صفحة الأمل الذي وُلد معه في أغسطس ٢٠١٩، وصفحة الخيبة التي ختم بها تجربته في نوفمبر ٢٠٢١.

ولعل ما حدث في السودان مع  دكتور حمدوك ليس إلا حلقة في سلسلة متكررة من تجارب الشعوب التي حاولت أن تتنفس هواء الحرية، فواجهتها تحالفات العسكر والقوى الرجعية.

ففي مصر، لم تصمد تجربة محمد مرسي، على كل ما فيها من ارتباك، أمام انقلاب عسكري أعاد البلاد إلى حكم الجنرالات. وفي تونس، أجهضت تجربة الثورة حين تحالفت المنظومة الأمنية القديمة مع حركة النهضة في لعبة شد وجذب أنهكت الشارع وأفقدته الثقة، حتى عاد الاستبداد في ثوب جديد. وفي تشيلي قبل عقود، لم يصمد سلفادور أليندي أمام تحالف العسكر واليمين المدعوم خارجيًا، فانتهى إلى انقلاب دموي بقيادة بينوشيه.

أما في إفريقيا جنوب الصحراء، فقد عرفت القارة نماذج مشابهة لا تقل قسوة. ففي زيمبابوي، انتهت تجربة روبرت موغابي بعد مسار طويل  إلى انقلاب عسكري أطاح به حين تجاوز الخطوط التي رسمها الجنرالات، لتبقى السلطة بيد الجيش مهما تغيّر الرئيس.

وفي مالي، لم تصمد الحكومة المدنية المنتخبة أمام موجة انقلابات متكررة (٢٠٢٠ و ٢٠٢١)، حيث عاد العسكر إلى الحكم بدعوى حماية الأمن القومي، بينما كان الهدف الحقيقي حماية مصالحهم وشبكاتهم الاقتصادية. وحتى في بوركينا فاسو، تحولت ثورة توماس سانكارا الذي حاول بناء دولة مدنية عادلة إلى ذكرى مأساوية بعد أن اغتاله رفاقه العسكريون وأعادوا البلاد إلى قبضة الانقلابات.

إنها ذات القاعدة، كلما ظهر قائد مدني يحاول انتشال بلاده من قبضة الطغيان، تكالبت عليه قوى السلاح والمال والدين لتعيد عقارب الساعة إلى الوراء. والسودان ليس استثناءً، بل صورة أخرى من هذه المسرحية السوداء.

ومهما قيل في تقييم تجربة حمدوك، فإن الحقيقة الجوهرية تظل أنّه لم يُسقطه ما لم يقم به وحده، بل أسقطته منظومة عسكرية متغولة، وحركة إسلامية مترسخة، وحكومة بورتسودان الحالية التي تمثل الامتداد الوقح لنظام الإنقاذ.

لقد كانت مؤامرة مكتملة الأركان ضد أي مدني يجرؤ على رفع رأسه، وضد أي مشروع وطني يهدد مصالح الجنرالات والتجار الإسلاميين. وإذا كانت ثورة ديسمبر قد راهنت على حمدوك كرجل مرحلة، فإن إفشاله يكشف بوضوح أن المعركة ليست مع أفراد، بل مع منظومة كاملة من القمع والفساد.

ومن هنا، فإن الدرس الأوضح أمام القوى المدنية اليوم هو أن لا تُعيد خطأ الاعتماد على التوافقات الهشة أو الرهان على شخصيات تكنوقراطية معزولة.

فالمعركة تحتاج إلى جبهة مدنية عريضة، متماسكة، قادرة على مواجهة العسكر والإسلاميين معًا، لا عبر المساومات، بل عبر مشروع وطني صلب يستند إلى لجان المقاومة، والنقابات الحية، وقوى الثورة الأصيلة.

إن التحدي الذي أسقط دكتور حمدوك ما زال قائمًا، ولن يسقط إلا بوحدة الصف المدني على برنامج واضح، يرفض الانقلابات، ويُقصي الإسلاميين، ويعيد السلطة للشعب. وهذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ السودان، لا عبر رجال بمفردهم، بل عبر إرادة جماعية تعلو على كل الانقسامات.

منذ اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣، لم يكن صوت عبد الله حمدوك هامشيًا أو مترددًا كما يحلو للبعض أن يصوّره، بل كان قويًا ومتسقًا في الدعوة إلى وقف الحرب، متمسكًا بخط مدني واضح يرفض عسكرة السياسة ويدين منطق السلاح. فقد أعاد عبر مبادرات تقدم ثم صمود، صياغة الموقف المدني في خطاب عقلاني ومتماسك، وحرص على أن يكون لضحايا الحرب صوت في المنابر الدولية، مستندًا إلى رصيده الأممي وعلاقاته الواسعة ليذكّر العالم بأن السودان ليس حكرًا على الجنرالات المتحاربين.

وبهذا الموقف الصلب، تمكّن حمدوك من تثبيت صورة المدنيين كخيار واقعي لا كأمنية بعيدة، فكان حضوره في المؤتمرات الإقليمية والدولية بمثابة منصة مضادة لخطاب الحرب. ورغم محاولات العسكر وحلفائهم التقليل من شأنه، ظل ثابتًا على مطلب وقف النار وإطلاق عملية سياسية شاملة تستند إلى المدنيين، دون أن ينجر إلى تبرير طرف على حساب آخر. لقد كسب، بهذه اللغة الواضحة، ثقة قوى مدنية وشبابية رأت في خطابه تماسكًا غاب عن كثير من القيادات الأخرى.

إن الدور الذي يلعبه حمدوك اليوم لا يُقاس بقدرته على تحريك الشارع وحده، بل بكونه واجهة مدنية قوية، تملك ما يكفي من الشرعية والخبرة لتمنح الموقف المدني سندًا دوليًا، وتجعل العالم يعترف بأن في السودان خيارًا ثالثًا، صلبًا، قادرًا على مواجهة منطق الحرب. وهذا في حد ذاته مكسب، لأن الصوت الذي يصدح من الخارج بقوة واتساق يفتح المجال أمام الداخل ليصوغ معادلته الخاصة على الأرض، ويجعل المدنيين جزءًا لا يمكن تجاوزه من مستقبل البلاد.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.