في واحدة من أبشع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في تاريخ المنطقة المغاربية، لا تزال قضية تهجير آلاف المغاربة من الجزائر سنة 1975 جرحا إنسانيا عميقا ينزف بعد مرور ما يقارب نصف قرن.

واليوم، مع تصاعد الأصوات الحقوقية المطالبة بالعدالة، تعود المأساة إلى الواجهة، ليس كذكرى تاريخية عابرة، بل كملف حقوقي يتطلب مساءلة قانونية عاجلة، إنها جريمة لا تسقط بالتقادم، وصوت ضحاياها سيظل حيا ما دامت هناك إرادة للوفاء لكرامتهم والبحث عن إنصافهم.

ومع عودة الملف إلى البرلمان المغربي مجددا، تتصاعد المطالب الحقوقية لمعالجة الوضع العالق منذ عقود.

“معيشة صعبة”

ويوثق تقرير صادر عن جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا التهجير القسري من الجزائر، الأوضاع المعيشية الصعبة التي يواجهها معظم ضحايا التهجير، فمنذ وصولهم إلى المغرب، واجهوا تحديات كبيرة لم يستطيعوا تجاوزها بشكل كامل.

ويقول التقرير إن غالبية هذه الشريحة تتقاضى أجورا ومعاشات هزيلة، بسبب إدماجهم في السلالم الدنيا للوظيفة العمومية، ما انعكس سلبا على مستوى عيشهم.

وفي هذا السياق، تصف الجمعية وضع المتقاعدين بـ”المزري”، حيث لا تكفي معاشاتهم الهزيلة لسد أبسط الاحتياجات اليومية، حيث يشكل السكن قضية مؤرقة بالنسبة لمعظم الضحايا، حيث يقطن الغالبية في منازل مستأجرة أو دور صفيح تفتقر لأبسط شروط العيش الكريم.

وتُشير الجمعية إلى أن نسبة كبيرة ممن استفادوا من سكن وظيفي أصبحوا الآن مهددين بالإفراغ، في حين ما زالت منازلهم الفاخرة التي تركوها وراءهم في الجزائر شاهدة على ماض تم محوه ظلما.

الملف يعود للبرلمان

في نفس السياق، تقدم الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية بسؤال كتابي إلى وزير الداخلية حول تسوية الوضعية العقارية للدور السكنية الخاصة بالمواطنين المغاربة المطرودين من الجزائر سنة 1976.

السؤال الذي تقدم به النائب البرلماني الكبير قادة عن إقليم فجيج، طالب من خلاله بتدخل الوزارة لحل هذا الملف الذي ظل معلقا لعقود.

وأوضح السؤال أن هؤلاء المواطنين، الذين تم إيواؤهم آنذاك في دور سكنية تابعة للدولة بمدينة بوعرفة، لم يستفيدوا من أي تفويت للعقارات التي يقطنونها، خلافا لما استفاد منه باقي موظفي الدولة.

وبينت المراسلات الرسمية السابقة أن جماعة بوعرفة التزمت بالمساطر التي تم الاتفاق عليها، والتي تقضي بتفويت العقار للمديرية العامة للأملاك المخزنية بثمن رمزي، على أن يتم تحويلها لاحقا إلى قاطني الدور.

إلا أن الإجراءات بقيت متوقفة بسبب مطالب المحافظ العقاري بالحصول على التصميم الطبوغرافي الخاص بالعقار، لتبقى وضعية الضحايا على حالها بعد مرور أكثر من أربعة عقود، يقول السؤال.

مطالب عاجلة

ويأتي هذا السؤال البرلماني في سياق المطالب الحقوقية المستمرة، والتي يشدد عليها رئيس جمعية الدفاع عن المغاربة ضحايا التهجير القسري، حميد العاطي الله، الذي وصف ما تعرض له المواطنون المغاربة بالانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان، مطالبا الدولة المغربية بالتحرك الفوري لإنصاف ضحايا التهجير وتسوية وضعيتهم العقارية.

واعتبر العاطي الله في تصريح لجريدة “العمق” أن ما حدث لم يكن حدثا عابرا، بل عملية ممنهجة تم تنفيذها يوم عيد الأضحى من منازل المواطنين المغاربة، حيث سلبت منهم حقوقهم وممتلكاتهم، وصودرت رواتب معاشات عمالهم بشكل مفاجئ.

واستعرض رئيس الجمعية قائمة الانتهاكات التي تعرض لها الضحايا، مشيرا إلى أنهم “تعرضوا للتنكيل والإهانة والترهيب والتجويع والعنصرية والمساومة”، بالإضافة إلى “الاعتقالات وحالات الحجز التعسفي”، و”التشتيت الأسري الذي نتج عن فصل الأزواج المغاربة عن زوجاتهم الجزائريات، والعكس”.

وأشار المتحدث إلى أن السلطات الجزائرية قامت بـ”تجريد المغاربة من ممتلكاتهم المتبقية، ثم رميهم حفاة عراة على الحدود البرية بعد تفتيش مهين، في مشهد يجسد الإهانة والخرق الفاضح للكرامة الإنسانية”.

ووفقا للمعايير القانونية الدولية، أكد رئيس الجمعية أن هذه الممارسات تعد “جريمة ضد الإنسانية، وتتوافر فيها مؤشرات جرائم حرب بالنظر إلى طابعها الجماعي، والانتهاك الصريح لحقوق السكان المدنيين”.

وفي ظل هذا الظلم المستمر، وضع رئيس الجمعية مجموعة من المطالب الرئيسية، أبرزها مطالبة الدولة الجزائرية بالاعتراف الرسمي بهذه الانتهاكات، ورد الحقوق والممتلكات، وتقديم اعتذار رسمي.

كما طالب الدولة المغربية بتقديم الدعم الدبلوماسي والقانوني للجمعيات الحقوقية المعنية بهذه القضية، قصد الترافع عنها دوليا.

اقتلاع من الجذور

في نفس السياق، قالت الأستاذة الجامعية بشرى الكاضي، إن طرد الجزائر للمغاربة “جرح إنساني وسياسي عميق لا يزال يؤثر على حياة آلاف الأسر حتى اليوم”، مشيرة إلى أن “ما وقع آنذاك لم يكن مجرد حدث عابر، بل عملية اقتلاع جماعي من الجذور، شملت أفراداً فقدوا بيوتهم، أراضيهم، وروابطهم الاجتماعية بين ليلة وضحاها”.

وأضافت الأستاذة الجامعية في تصريح لجريدة “العمق” أن “أكثر من 45 ألف أسرة مغربية وجدت نفسها مطرودة من أرضٍ احتضنتها لعقود، دون وقت لوداع الأصدقاء أو جمع الذكريات”.

وترى الكاضي أن “الجرح النفسي بقي أعمق وأقسى، إذ عاش هؤلاء إحساسا قاسيا، بأنهم كانوا ضحايا لعبة سياسية دفعتهم ثمنا لصراع لم يكن لهم يد فيه”، معتبرة أن آثار المأساة لا تزال حاضرة، وأن الكثير من المهجرين يعيشون في ظروف هشة، بين فقر، بطالة، وتشرد، دون تعويض عادل أو رد اعتبار حقيقي.

وشددت على ضرورة مواصلة تسليط الضوء على هذه القضية، ليس فقط من باب التوثيق التاريخي، بل من أجل “الدفع نحو إنصاف الضحايا وحفظ ذاكرتهم من النسيان”.

وأكدت أن “الضحايا ما زالوا هنا، بأوجاعهم وحكاياتهم، في انتظار أن تتحقق العدالة، ولو بعد حين”، وأن “الذاكرة الحية للشعوب أقوى من محاولات الطمس أو التجاهل” وفق تعبيرها.

تحديات مستمرة

وتضاف إلى هذه المعاناة، المشاكل الصحية التي يواجهها الضحايا، حيث لا يستفيد معظم المغاربة ضحايا التهجير من أي تغطية صحية، إلا الفئة القليلة التي عملت في الوظيفة العمومية، مما يتركهم عرضة للأمراض دون إمكانية الولوج للخدمات الصحية الأساسية.

كما تعد قضية التجمع العائلي أحد أبرز الجروح العميقة، حيث إن العديد من الضحايا يعانون من التشتت الأسري، إما لأن جزءا من عائلاتهم ظل في الجزائر قسرا، أو تم تفريقهم داخل المغرب على مناطق مختلفة، مما يزيد من معاناة الضحايا النفسية.

ولم يسلم الأبناء من هذه المأساة، إذ لم يتمكن معظمهم من إتمام دراستهم الأساسية، إما بسبب عدم ملاءمة التوجيه المدرسي الجديد أو الضائقة المالية التي عانت منها أسرهم، مما أجبرهم على ترك الدراسة والالتحاق بالمهن الصغيرة لدعم عائلاتهم.

ويصف بعض الضحايا تلك اللحظات بكونها “اقتلاعا من الجذور”، إذ لم يكن الأمر مجرد انتقال جغرافي، بل انقطاع مفاجئ عن شبكة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية التي نسجوها لعقود.

وبالنسبة للأطفال الذين شهدوا التهجير، فقد بقيت الصور محفورة في ذاكرتهم: دموع الأمهات، نظرات الوداع، ورجال يحاولون إخفاء انكسارهم خلف صمت ثقيل، يقول التقرير ذاته.

واليوم، ومع تعاقب الأجيال، يخشى كثيرون أن يطوي النسيان هذه الصفحة المؤلمة، لكن أصواتا عديدة، من بينها منظمات حقوقية وفعاليات مدنية، تؤكد على ضرورة حفظ الذاكرة الجماعية، وتوثيق شهادات الناجين، والمطالبة بإنصاف الضحايا، سواء عبر الاعتراف الرسمي أو التعويض المادي والمعنوي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.