عبدالله رزق أبو سيمازة
عجلت حرب 15 أبريل ٢٠٢٣ بنهاية الصحافة الورقية، المينستريم، التي تفاجأت بها، مثلما تفاجأت بها مكونات المجتمع السوداني الأخرى. وأصبح السودان، بين يوم وليلة، بلدا بلا صحافة. ومع أن السودان الحديث، الذي تزامنت صرخة ميلاده مع انطلاقة الرصاصة الأولى للتمرد الاول في جنوبه، يكاد، منذ ذلك الوقت، ان يكون دار حرب، أكثر منه دارا للسلام، فإن صحافته العريقة لم تكن مهيأة، من حيث الخبرة والتجربة والوعي، للتعامل مع هذا الحدث، اعلاميا، وهو حدث أكدت التطورات الميدانية المتلاحقة خطورته، الأمر الذي يمكن تلمسه في تغطيتها الحرب وما جرياتها اليومية. فهي، على الاقل، لم تتوفر على كادر متخصص في هذا المجال، في حين يمكن، بنظرة عابرة، ملاحظة ، أن عديدا من المشاهير، بينهم صحفيون، قد بدأوا حياتهم المهنية، يوما، كمراسلين حربيين، مثل وينستون تشرشل، وألان مورهيد، ومحمد حسنين هيكل.
وقد أقر الدكتور عبدالعظيم عوض، الذي شغل موقع الأمين العام لمجلس الصحافة، في الفترة الأخيرة من عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بتدهور الصحافة خلال تلك الفترة، واستمرار هذا التدهور، في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك، إلى أن انفجرت الحرب ” ووجهت لها رصاصة الرحمة “، على حد تعبيره، في الحديث الذي أدلى به للجزيرة نت.
وأوضح عوض أن عدد الصحف، قبل الحرب، قد تراجع من ٤٩ صحيفة سياسية ورياضية واجتماعية، إلى ١٢ صحيفة، كانت غالبيتها متعثرة. وان توزيع الصحف قد تراجع، بدوره، بنسبة كبيرة جراء ارتفاع كلفة التشغيل والطباعة، حيث بلغت ٢٨٪ عام ٢٠١٧، حتى عجزت صحف كثيرة، كما قال، عن الالتزام بدفع أجور الصحفيين.
وبعد ١٨ شهرا من اندلاعها، كانت الحرب، وفق الجزيرة نت، قد دمرت المؤسسات الإعلامية، وبنيتها، وتوقفت الصحف الورقية بصورة كاملة ” للمرة الأولى، منذ ١٢٠ عاما “.
وقدر للصحفيين، الذين أصبحوا في عداد العاطلين عن العمل ، أن يقتسموا مع مواطنيهم من المدنيين معاناة الحرب. فضربوا في ارض الله الواسعة لاجئين ونازحين.
ووفقا لنقابة الصحفيين السودانيين، فإن أكثر من ٥٠٠ صحفي وصحفية، لجأوا إلى خارج السودان، حيث يواجهون، وفق النقابة، ضغوطا قانونية ومعيشية.
واحصت النقابة، في بيان لها، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، في ٣ مايو ٢٠٢٥، الانتهاكات التي تعرض لها الصحفيون، خلال العامين الماضيين، من عمر الحرب، موثقة مقتل ٣١ صحفيا وعاملا في المجال الإعلامي، خلال حوادث اغتيال وقصف مباشر، إضافة إلى اعتقال واحتجاز ما لا يقل عن ٢٣٩ صحفيا، وتعرض العشرات للضرب والتنكيل والملاحقة والتهديد، ليبلغ إجمالي الانتهاكات الموثقة ، حوالي ٥٥٦ حالة.
إن موت الصحافة، والتي خرجت للتو من نفق التمكين الخانق، في ساحة الحرب الفاجرة، يفرض تحديين، اثنين:
* تكريس الصحافة الإلكترونية كبديل، لشغل الفراغ الذي خلفه غياب الصحافة التقليدية.
* احياء الورقية، ولو بعد حين.
ومع أنه لا ينقصها الحد الأدنى الضروري من الخبرات والوعي والمعارف، ولا تنطلق من فراغ، فأنها تجد نفسها مرة أخرى، موضوع اختبار في مجال تقديم خدمة ذات مصداقية، في مناخ يغلب عليه التنافس، الذي يجتذب اليه العديد من الناشطين الإعلاميين وغيرهم، بجانب منصات السوشال ميديا والمواقع الالكترونية، بدء من تغطية وقائع الحرب اليومية، وهي مهمة تنهض بمثابة تحد يومي لجدارة الصحافة البديلة، واهليتها لتزويد المواطنين بالمعلومات الصحيحة. وفي وقت تفرض الحرب نفسها، وتتأرجح فرص السلام، فان على الصحافة الجادة، ومن موقع التزامها تجاه تحقيق السلام واستعادة الديموقراطية، وهي مواجهة بصعوبات عملية، في مقدمتها صعوبات ومشكلات العمل من الخارج، بعد أن استحال العمل من داخل البلاد ، التي توزعت بين معسكري الحرب، واستقطبت بين المعسكرين، وبين من هم مع ومن هم ضد الحرب، وما يقابل ذلك، بالضرورة، من مشكلات، لا تقتصر على البعد من ميدان الأحداث، حسب، لكنها تشمل قلة المصادر، وشح المعلومات، فضلا عن قطع الانترنت والاتصالات التلفونية، مما ينعكس على أدائها المهني، وعلى قدرتها على كسب ثقة جمهور المتلقين، بينما تختلط الحقائق بالاكاذيب، والحرب النفسية بالدعاية السوداء، وخطاب الكراهية، وبجانب صعوبة التحقق من صحة المعلومات المتداولة. وقد أثرت الشروط الذاتية والموضوعية، التي تعمل ضمنها الصحافة على أدائها، بشكل عام. فقد خلت تغطيتها الخبرية لوقائع الحرب اليومية من السبق والانفراد، وشابها قصور بين في توظيف تقنيات الملتيميديا في نقل الأحداث، فضلا عن افتقارها للمصادر الوثيقة الصلة بالحدث موضوع التغطية، والاعتماد، لحد كبير، على توليفة مما يتداوله الناشطون في السوشال ميديا من اخبار ينقصها التحقق من صحتها، ومعلومات غير موثوقة، وشائعات. وفي ظل شح الاخبار، الذي يسم الصحافة، عادة ، فقد غلب عليها طابع الرأي.
ربما لم يئن الأوان، للتقرير بشأن نجاح الصحافة الالكترونية في الاستجابة للتحدي الذي يواجهها، بملء الفراغ الناشئ عن انسحاب الصحافة التقليدية، من جهة، والتكريس كصحافة بديلة، من الجهة الاخرى، والخروج، بالتالي، من حيز البلبلة الإلكترونية، إلى مظان اليقين الرقمي، رغم سموق منارات من قبيل الراكوبة والتغيير ومداميك وسودانايل ومواطنون، وأخرى حزبية، وثالثة تعود لأفراد وغيرها. الى ذلك فان الكلمة الأخيرة بشأن الصحافة التقليدية لم تقال بعد. إذ لم ينته السجال بشأن مصائرها، في ظل صعود الإعلام الجديد، إلى نتيجة حاسمة. لذا فان من المرجح أن يكون لها حضور استثنائي في ثنايا مشاريع إعادة البناء والإعمار، التي تعقب الحرب، مقرونا بالبناء والإعمار الاقتصادي. مع ذلك، ثمة مكان للصحافة الورقية، بدلالة المقروئية. ففي وقت سابق كشف تقرير لمجلس الصحافة أن مانسبته ٧٦٪ من المطبوع من الصحف يتم توزيعه بالعاصمة، مما يؤشر كون الصحافة امتيازا للنخبة الخرطومية، خاصة، أو الحضرية، بصورة عامة ، قد يمكن تعميم القول على الصحافة الإلكترونية، التي ترتبط بامتلاك الحواسيب والهواتف الذكية، مما يجعل من توسع قاعدة مقروئيتها تحديا إضافيا، يتعين أخذه في الحسبان، في المستقبل.
ان إعادة بعث الصحافة الورقية من جديد ، سيشكل، بغير شك، جزء من برنامج إعادة الإعمار، بعد الحرب. ويعني، في المجال الإعلامي، إعادة بناء المؤسسة الصحفية، التي دمرتها الحرب، على أسس جديدة، تتجاوز سلبيات التجربة السابقة. وترتهن بإعادة الإعمار الاقتصادي للبلاد، وتحقيق تقدم ملموس في هذا المجال، ينعكس ترقية الأوضاع المعيشية للمواطنين، وهو ما قد يبطيء من عودتها متدرجة، مثلما يشترط ترسيخ الديموقراطية، والانحياز لجانب التقدم التكنولوجي في ميدان الاتصالات، . كما ان تكريس الصحافة الرقمية، يرتبط، بدوره، بتوسع قاعدة التعليم وتعزيز الديموقراطية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والتحول الديموقراطي.
المصدر: صحيفة الراكوبة