شول كات ميول
منذ انقسام الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى أجنحة متناحرة عقب اندلاع الحرب في ديسمبر 2013، يعيش جنوب السودان حالة من الاضطراب السياسي المزمن. ورغم تعدد الاتفاقيات من أروشا إلى أديس أبابا، ومن كمبالا إلى نيروبي، بل وحتى الخرطوم، فإن أياً منها لم ينجح في وضع البلاد على مسار الاستقرار الدائم. ما يحدث في كل مرة هو توقيع الاتفاقيات ثم الالتزام الجزئي بها وفق مصالح كل طرف، مع تجاهل البنود التي لا تخدم موقعه في السلطة، الأمر الذي أدى إلى تأجيل الانتخابات مراراً، تاركاً المواطن في حالة ترقب وضبابية تجاه مستقبله السياسي.
الأحداث الأخيرة في إقليم أعالي النيل الكبرى، ولا سيما في مدينة الناصر، عكست بوضوح هشاشة الأمن، فقد أدت المواجهات المسلحة إلى مقتل قائد عسكري رفيع واعتقال قيادات حكومية، بالإضافة إلى وضع النائب الأول للرئيس د. رياك مشار تحت الإقامة الجبرية. ومع بروز مجموعة جديدة متحالفة مع جناح الحكومة، ازدادت الانقسامات داخل الحركة الشعبية، في ظل استياء مكتوم من التعيينات الأخيرة، خاصة صعود بول ميل إلى موقع متقدم في الحزب والحكومة. صمت الأطراف الأخرى لا يعني رضاها، بل يعكس انتظار اللحظة المناسبة لتفجير الأزمة من جديد.
أما الأحزاب والحركات السياسية الأخرى فهي تفتقر إلى برامج واضحة للإصلاح والتحول الديمقراطي، وتبقى ولاءاتها مرهونة بموازين القوى، الأمر الذي يجعلها عرضة للتوظيف من قبل الأطراف الأقوى. في ظل هذا المشهد المترهل سياسياً، ومع انتشار السلاح والمطامع الإقليمية، تتزايد التدخلات الخارجية، إذ تميل عواصم مثل نيروبي وكمبالا إلى دعم جماعات بعينها لحماية مصالحها. وإذا استمرت الانقسامات فمن المتوقع أن تتشكل تحالفات مناطقية وقبلية مثل مجموعة ملكال ومجموعة جوبا ومجموعة أويل ومجموعة واو، وسيتشرزم المشهد العسكري والسياسي أكثر، بحيث تتحول بعض المدن ومراكز المجموعات الكبيرة إلى معاقل نفوذ وصراع؛ فأويل لن تقف مكتوفة الأيدي وستتحول إلى مركز عسكري وسياسي، وكذلك واو أو راجا، وأيضاً ملكال والرنك وبور ورمبيك، فيما ستبقى جوبا مركز السلطة ومقر الجيوش عرضة للانهيار والتحول إلى حطام خالٍ من السكان، باستثناء أطرافها التي يقطنها أهلها الأصليون. هذا التشظي الجغرافي والسياسي سيجعل التفاهمات أكثر صعوبة ويغذيها تضارب المصالح والنزعات القبلية والمناطقية.
تجنب هذا السيناريو يتطلب إصلاحاً هيكلياً داخل الحركة الشعبية يعيد بناء القيادة على أسس تمثيلية تشمل جميع الأجنحة والمناطق، مع وضع ميثاق داخلي ملزم يحظر الانشقاقات المسلحة ويحدد آلية واضحة لفض النزاعات. كما يجب تحديد موعد ملزم لإجراء الانتخابات لا يتجاوز اثني عشر شهراً، مع إشراف إقليمي ودولي يضمن النزاهة ويوفر الحماية للمرشحين والناخبين. ولا يمكن الحديث عن استقرار دون معالجة ملف السلاح المنتشر خارج إطار الدولة، عبر برنامج وطني لجمع السلاح وإعادة دمج المقاتلين، وربط أي دعم دولي بتنفيذ هذا البرنامج وفق جدول زمني صارم.
إلى جانب ذلك، هناك حاجة ملحة لإطلاق مبادرة مصالحة وطنية شاملة يشارك فيها القادة الدينيون والمجتمعيون والنساء والشباب، مع تضمين ملف العدالة الانتقالية لتعويض المتضررين ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات. أما على الصعيد الخارجي، فلابد من تبني سياسة متوازنة تمنع الارتهان لأي محور إقليمي، وإنشاء آلية مراقبة مشتركة بين الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد للحد من التدخلات. وعلى الصعيد الاقتصادي، ينبغي استثمار عائدات النفط في مشروعات تنموية عاجلة بدلاً من تمويل الصراعات، وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد عبر رقابة برلمانية ومجتمعية حقيقية.
إن جنوب السودان يقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم، فإما الانزلاق نحو صراع طويل الأمد ينهك الدولة ويمزق المجتمع، أو اغتنام فرصة بناء توافق وطني حقيقي يقود إلى الاستقرار والتنمية. والسلام هنا لن يكون مجرد غياب للحرب، بل نتاج إرادة سياسية صادقة وشجاعة لمواجهة التحديات بقرارات جريئة.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة