الفترة الديمقراطية الأخيرة (1986 1989) مرّت منذ بداياتها بعثرات كثيرة، كان ذلك طبيعيا بعد حوالي عقدين من حظر النشاط الحزبي والصحافة الحرة. عادت الأحزاب لتمارس نشاطها دون أن يبدو انها تعلمت كثيرا من تجارب الماضي، ولم تعط إشارات كثيرة على حرصها واستعدادها لتلافي أخطاء التجارب السابقة وتحصين الممارسة بما يصد محاولات إفشالها، لكن الصبر على التجربة وتنامي وعي الأجيال الجديدة كان كفيلا بترسيخ التجربة ومعالجة كل سلبياتها.

الجبهة القومية الاسلامية كانت احدى عثرات تلك التجربة، ورغم ان الحزب كان مشاركا في البرلمان وفي الحكومة أيضا في بعض الفترات، لكن كان واضحا ومنذ اللحظات الاولى انه يضمر الانقلاب على التجربة الوليدة. كان اعلامه يبشر علنا بالانقلاب، وقادته لا يخفون محاولاتهم للتقرب من القوات المسلحة. ومن عجب ان الحزب الذي طرح نفسه مناصرا للقوات المسلحة ابان الفترة الديمقراطية سعى من بعد استيلائه على السلطة، لتدمير القوات المسلحة وتفريخ المليشيات في سعيه لتفكيك كل احتمالات الثورة ضد نظامه.

كان استمرار التجربة الديمقراطية هو الضمانة الوحيدة لبقاء هذه البلاد موحدة ولنزع فتيل عدم الاستقرار والحروب الاهلية.

بات معروفا أنّ الانقلاب الكيزاني جاء لقطع الطريق على اتفاقية الميرغني قرنق  التي مثّلت فرصة حقيقية لحل مشكلة الجنوب، حقن الدماء ووقف الحروب التي تستنزف اقتصاد البلاد، وتهيئة المجال بالتالي نحو استقرار للنظام السياسي يستتبعه بالضرورة تنمية متوازنة ومعالجة شاملة لكل أسباب الحروب والنزاعات.

ممارسات نظام الإنقاذ الكيزاني كانت نتيجته ليس فقط الحروب التي ادت لانفصال الجنوب، وعدم الاستقرار والكوارث التي حدثت في دارفور بل انها وضعت أيضا أساس الحرب الحالية، حين سعت لإيقاظ نار العصبيات واحياء القبلية ونشر الفتن بين القبائل وتسليح بعضها للاستعانة بها في قمع أية تمرد او انتفاضة.

كانت ثورة ديسمبر هي الامل في ان تتجاوز هذه البلاد العوائق الكثيرة التي خلفتها الفترة الإنقاذية، لكن تواطؤ اللجنة الأمنية التي خلفت البشير والتهاون في تصفية النظام القديم بسرعة رغم (المجهودات المقدرة للحكومة الانتقالية ولجنة تفكيك التمكين) لكن المؤامرة كانت اقوى، وقع انقلاب أكتوبر 2021 وحين فشل الانقلاب لجأت الحركة الإسلامية لشن الحرب ضد حليفها القديم لإجهاض الثورة وخلق واقع جديد تطغى جرائمه على جرائم الثلاثة عقود التي انتجت الحروب.

عادت الحركة الاسلامية بكل بساطة لتطرح نفسها كمنقذ من الحليف الذي صنعته بنفسها! مجرد حلقة أخرى من مسلسل الخم الذي برعت فيه الحركة الكيزانية: نفس فكرة إعادة صياغة الانسان السوداني، بما يضمن ولائه للتنظيم الشيطاني وانشغاله عن أحوال البلاد بهموم معاشه ومعاش اسرته.

يقول أحد منظري الجماعة بكل بساطة بعد أن اكلت الحرب التي يصر التنظيم على استمرارها، بعد ان اكلت الأخضر واليابس في هذه البلاد المنكوبة: لا نريد سلطة ولا حكما الا بتفويض من الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة!

النظام الذي قام بتزوير حتى انتخابات اتحاد الجامعات، وفي آخر انتخابات يجريها، قامت أجهزة امنه بتفريغ صناديق الانتخابات واستبدال البطاقات الانتخابية، وفي عجلة التزوير لم ينتبهوا الى انهم قاموا بوضع بطاقات أخرى حتى للمرشحين الآخرين! فقام حتى المرشحين المناوئين لهم بالتصويت لهم!

يتحدث اللصوص، اساتذة التزوير عن الانتخابات الحرة النزيهة في استهتار قديم جديد بشعبنا وبثورة ديسمبر التي زلزلت اركان نظام النهب والتزوير. يريدون مسح ذاكرة شعبنا، واستبدال صورة الفاسد الذي نهب ثروات بلادنا، وحرم شعبه من حقوقه، وحرم اجياله الجديدة من حقوقهم في التعليم الذي ترعاه الدولة والصحة التي تكفلها الدولة المحترمة لمواطنيها الفقراء.

الفاسد الذي شن الحروب وادى لانفصال جزء عزيز من بلادنا، وشن الحروب في كل مكان في بلادنا، مخلفا ملايين الضحايا. الفاسد الذي أشعل الحرب ليعود الى السلطة، حرب أدت الى تدمير البلاد ونزوح الملايين بعد ان فقدوا كل شيء، وحتى في المنافي التي قصدوها هربا من الموت، ظل الموت يطاردهم (لابد ان الكثيرين سمعوا بقصة الأسرة التي نزحت هربا من الحرب الى دولة كينيا، وهناك اثر حادث مروري مروّع قبل أيام، فقدت الاسرة ابنها الوحيد، وآلاف القصص حول أطفال ماتوا عطشا في الصحارى، وآخرين تعرضوا للخطف والاختفاء، وكثيرين تعرضوا للعنف والنهب والاستغلال من قبل سماسرة الحروب في الداخل وفي دول الجوار.

لم يكتفي التنظيم الاسلاموي بإشعال الحرب فقط، بل يصر على استمرارها وإفشال كل المساعي لوقفها، حرب تستمر فوق جماجم الأبرياء حتى لا يفقد التنظيم الشيطاني المكاسب التي يرجوها من استمرار حرب باتت تهدد وحدة هذه البلاد وتماسك نسيجها المجتمعي.

#لا_للحرب

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.