في كل مرحلة تاريخية حاسمة، تجد الأمم نفسها أمام سؤال مصيري يحدد ملامح مستقبلها لعقود. واليوم، المغرب يقف أمام سؤال من هذا النوع: ما مصير هذا الوطن في ظل التدفق المستمر للمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء؟
ليس السؤال وليد لحظة عابرة أو ضجيج شبكات التواصل الاجتماعي، بل هو مسألة تتصل بجوهر الدولة وسيادتها، بحدودها، بنسيجها الاجتماعي، وبقدرتها على الحفاظ على توازن ديموغرافي وثقافي يضمن استقرارها.
إن الفلسفة السياسية تعلمنا أن الدولة، في تعريفها الأصيل، هي الكيان الذي يحتكر العنف المشروع ويحمي حدوده ويصون هوية شعبه، دون أن يتخلى عن واجبه الأخلاقي تجاه الإنسانية. وهنا تكمن المعضلة: كيف يمكن للمغرب أن يكون وفياً لقيمه الحضارية في استقبال المحتاج وحماية اللاجئ، وفي الوقت نفسه حازماً في صون مصالح مواطنيه وأمنه القومي؟
القانون الدولي يعترف بحق الدول في تنظيم الهجرة على أراضيها، كما يعترف بحق طالبي اللجوء في الحماية. غير أن هذا التوازن ينهار حين تغيب الرؤية الاستراتيجية، وحين يتحول التدفق إلى ضغط ديموغرافي وأمني لا تقدر عليه البنية الاقتصادية والاجتماعية. وما نراه اليوم من تكدس المهاجرين في بعض المدن المغربية ليس إلا مؤشراً أولياً على تحديات أكبر ستتفاقم إذا لم تُدار بحكمة وبُعد نظر.
لقد عاشت فرنسا، على سبيل المثال، تجربة مريرة حين تركت الظاهرة تتفاقم تحت غطاء الخطاب الإنساني دون سياسات إدماج حقيقية أو ضبط فعلي للحدود. فوجدت نفسها أمام أجيال من المهمشين، عالقة بين ثقافتين، ومناطق معزولة جغرافياً وثقافياً عن جسد الأمة. إن المغرب، إن لم يتحرك اليوم، قد يسلك الطريق ذاته، لكن بقدرة أقل على احتواء التداعيات، بالنظر إلى هشاشة بعض بناه التحتية وموارده الاقتصادية.
الحل ليس في الإقصاء ولا في الفوضى، بل في حوار مجتمعي واسع، يشارك فيه صناع القرار، القانونيون، المفكرون، والجمعيات المدنية، بهدف صياغة قانون متكامل للهجرة واللجوء، قانون يحدد بوضوح شروط الدخول والإقامة، حقوق المهاجرين وواجباتهم، وآليات إدماج من يمكن إدماجه، وإعادة من لا تنطبق عليه الشروط. إننا بحاجة إلى رؤية تقوم على مبدأ “الكرامة المزدوجة”: كرامة المواطن المغربي في أن يعيش آمناً في وطنه، وكرامة اللاجئ في أن يُعامل بإنسانية ضمن إطار قانوني منظم.
هذا النقاش ليس مسألة سياسية عابرة، بل هو قضية وجودية تمس تعريفنا لذواتنا كدولة وأمة. وكما قال الفيلسوف جان جاك روسو: “الشعب الذي يتخلى عن جزء من سيادته، يتخلى عن ذاته.”
اليوم، المغرب مدعو لأن يثبت أنه قادر على حماية ذاته دون أن يتخلى عن إنسانيته، وأن يرسم سياسات تليق بتاريخ أمة كانت عبر القرون جسراً بين إفريقيا وأوروبا، بين الواجب الأخلاقي والحق السيادي.
المصدر: العمق المغربي