فضيلي جمّاع

حرصت أن تكون صورة الصبي الذي يجمع بقايا الدقيق المندلق على الأرض ليكون وجبته عوضاً عن لقمة مشتهاة حرصت أن تكون هذه الصورة فقرة مكملة لهذا المقال .. وأن تغرز نظرة الطفولة المحرومة من اللقمة شوكتها في مخيلة كل قارئ لهذا المقال عساه إذا فرغ من قراءته أن يجد الإجابة على سؤالي: من سرق لقمة هذا الطفل؟

نعم .. يمكننا اعتبار مؤتمر الخريجين (في الثلاثينات) بأطروحته المطالبة باستقلال البلاد تياراً ضمن حركات التحرر الوطني التي انتظمت القارات الثلاث آنذاك : آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لكن القارئ بتمعن للتاريخ السياسي لبلادنا خلال ما يقارب القرن يعرف جيداً أنّ الخيط السحري لمكونات الدولة الحديثة كان غائباً عن النخب السياسية السودانية من بداية حركة الاستقلال حتى اليوم. فبينما كانت ثورات التحرر الوطني في أفريقيا التي نحن في قلبها تنطلق من الأرياف وتزحف في نضالها نحو العواصم لتقيم الدولة المدنية دولة المواطنة كان حلم نخبنا السياسية وما زالوا تحريك لعبة السياسة والحكم في العاصمة المثلثة وإسدال الستار على اللعبة في ذات المسرح. أما أن يكون هناك بشر في الهامش العريض هم الغالبية التي تمثل عصب البلاد في كل مكوناتها فذلك ما لم يخطر لهم على بال. وأن تكون القراءة للنضال من أجل الاستقلال مقرونة بالقراءة العميقة للمكون الثقافي والتنوع الإثني ومحاولة صهر كل ذلك في بوتقة جامعة للأمة السودانية فذلك ما لم يكن في يوم من الأيام شاغلاً لنخب المركز بدءاً من مؤتمر الخريجين وانتهاء باللت والعجن الذي نراه اليوم. فهل كان غريباً أن ينفصل جنوب البلاد ليكون دولة مستقلة مهما أحاط باستقلالها اليوم من مخاطر؟ وهل تبدو غريبة ثورات الهامش المسلحة التي مهدت لها تجمعات مدنية مسالمة منذ ستينات القرن المنصرم (اتحاد عام جبال النوبة مؤتمر البجة مثالاً؟)

لسنا هنا بصدد تشريح الواقع السياسي الموغل في أورامه السرطانية . لكننا قطعاً لن نقرأ واقع الطفل الذي يجمع في كفه الصغيرة بقايا الدقيق المنثور على الأرض ليخمد لهيب الجوع لن نقرأ هذا الواقع التراجيدي والفضائحي بمعزل عن تغريبة نخب المركز وحصادها الذي قاد البلاد إلى سوء ما تعيشه بلادنا اليوم. ولعل أي قارئ للمشهد السياسي في السودان يعرف أنّ النخبة فشلت في مجرد تصور أنّ التنوّع والتعدد العرقي والديني والثقافي نعمة في عصرنا الذي نعيش. لذا كانت القراءة الخاطئة لحرب الجنوب التي دامت نصف قرن وحصدت مقدرات البلاد البشرية والمادية وأبطأت عجلة التنمية وحالت بين التواصل والتمازج الثقافي بين شمال وجنوب البلاد. وهي ذاتها نخبة المركز تلك التي مهدت الطريق في خاتمة المطاف لغول الإسلام السياسي الذي شطر البلاد وجفف الموارد وحرك ماكينة الحرب على مدى ربع قرن وأعاد العصبية القبلية التي كادت تفوت ومكن لرأسمالية طفيلية قسمت السودانيين إلى مجموعتين : قلة تملك كل شيء وكثرة لا! The haves .. and the havenots تملك شيئاً ، أو ما يسمى في فصيح الإنجليزية :!

في حربهم الأولى على جبال النوبة بداية التسعينات كانت حكومة الإسلامويين في الخرطوم تملك برنامجاً ينطوي في جوهره على حرق الزرع والضرع في الجبال وقيام معسكرات تديرها منظمات اسلاموية مهمتها الدعوة وإبدال ثقافة سكان المنطقة برمتها. وتحت التسمية العسكرية “تمشيط الأرض” كان الجيش والمليشيات يقومون بإزالة أو حرق كل القرى في الأرض التي تقع يدهم عليها بحجة أنها مأوى “التمرد”. كان الحرق والسلب والنهب قد طال القرى والمزارع والمواشي . وكان الهدف ألا يكون أمام سكان المنطقة غير خيار واحد وهو اللجوء إلى معسكرات تسيطر عليها حكومة نهجها منذ البداية إبدال ثقافة الناس من مكونها الأصل إلى منهج الخلافة الجديدة في السودان. ولم تنج الحرب في دار فور وجنوب النيل الأزرق من نفس التفكير الهمجي حرق الأخضر واليابس والقضاء على أكبر قدر ممكن من المكون الثقافي لسكان المنطقة بل وإبدالهم بمن يدينون بالولاء للحكومة حتى لو اقتضى الحال جلب مليشيات من بلاد مجاورة تعيش حالة اضطراب سياسي!

في الكتاب الذي نشرته منظمة (آفريكا رايت) مايو 1997 تحت عنوان: الغذاء والسلطة في السودان (Food and Power in Sudan) ورد أنّ الخراب الذي عمدت إليه حكومة البشير في أرياف جبال النوبة كان الهدف منه أن يؤدي إلى تفشي المجاعة والفقر وتثبيط العزيمة مما يدفع بسكان القرى للجوء إلى معسكرات الحكومة. وها هي آلة الحرب تعود وبنفس فكرة الأرض المحروقة والقصف المستمر على مدار الساعة . لكن لسوء حظهم أنّ إنسان جبال النوبة لم يعد هو ذات الإنسان الذي يمكن أن يلووا ذراعه ويجبروه على اللجوء إلى معسكراتهم. تغير الواقع على الأرض وامتلك الناس هناك زمام المبادرة. بل إن جبال النوبة بموقعها الجغرافي المميز صارت الحاضن لثورة الهامش التي تنادي بالدولة المدنية دولة المواطنة التي تساوي بين الناس كل الناس في الحقوق والواجبات.

في ظرف الحرب يبحث الإنسان عن المأوى والمأكل. ومن الطبيعي أن يتدفق ملايين الناس من ريف البلاد الخاوي من الخدمات والتنمية والذي صارت مساحات شاسعة منه بأعدادها الغفيرة من السكان تحت نير الحرب من الطبيعي أن يتدفق سكانه صوب المركز. والمركز كما يقول الشاعر الإيرلندي العظيم دبليو. بي. ييتس لم يعد يحتمل ، لذا تداعت الأشياء.. The centre cannot hold, things fall apart

هناك من سرق لقمة هذا الطفل ، قلة من الناس نهبت كل شيء لتكون الكثرة من السودانيين بلا شيء. لقد طفحت الرائحة الكريهة لسرقة المال العام كما تطفح مياه المجاري بكل عفونتها. وطبعا هناك من يبرر لهم السرقة لتدخل قاموس الحياة العامة مفردة (تحلل)!! يسرقون ما في أيدي الفقراء ثم يبحثون عن فقه الضرورة للتبرير !

سيقود هذا الفقر المدقع الفقر الذي جعل طفلاً يلعق الدقيق المنتثر في قارعة الطريق سيقود إلى ما أسموه في الدراسات الاجتماعية بوعي الفقر. يقول كارل ماركس: (الفقر لا يصنع ثورة؛ إنَّما وعي الفقر هو الذي يصنع ثورة. الطاغية مهمَّته أنْ يجعلك فقيراً؛ وشيخ الطاغية (أيْ رَجُل الدِّين) مهمَّته أنْ يجعل وعيكَ غائباً)!
وفي العالم من حولنا هناك دائماً علاقة بين الفقر والعنف نتاج التطرف الديني. ولعلي أقتبس هنا ما كتبه الأستاذ ياسر سعيد عرمان في مقالته الجميلة “دكتور جون قرنق..حضور في سونامي الغياب!” إذ يقول: ) والعنف الدينى والفقر صنوان ووجهان لعملة واحدة و لا يزال فقراء الهندوس يعتصرهم التراتب الطبقى المحكم و لا يزال بعضهم يفر بجلده الى الديانة البوذية و المسيحية للخروج من احكام التراتب الابدى الهندى وفى باكستان و بنغلاديش يجتاحهما العنف الدينى و الفيضانات وهم المسلمين بعضهم مع بعض!!)

إننا ندخل مرحلة وعي الفقر.. أن يعرف إنسان السودان من سرق اللقمة من أفواه الفقراء. وبدخولنا هذه المرحلة ستقوم الإنتفاضة بأي شكل تتصورها مخيلة الثوار. إن شمس حرية إنسان هذا البلد تلوح في الأفق !

[email protected]
نشر في حريات ٢٠١٤

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.