أمد/ أعلن بنيامين نتنياهو، هذا الأسبوع، أن الصفقة المرحلية، التي هدفت إلى إطلاق جزئي للمحتجزين وهدنة مؤقّتة، لم تعد قائمة، وأنه لن تجري مفاوضات حولها، وأكّد أنه يتفق مع الموقف الأمريكي (الذي هو في الأصل صدى الموقف الإسرائيلي)، الذي يتبنّى صفقة شاملة، يُطلق في إطارها سراح المحتجزين جميعا، وتنتهي الحرب تبعا للشروط والإملاءات الإسرائيلية. جاء ذلك خلال مقابلة لقناة آي 24، أجراها معه الصحافي اليميني المتطرف شارون جال، وادعى نتنياهو فيها أنّه يسعى إلى إنهاء الحرب بسرعة، لتخفيف العبء على قوات الاحتياط ولفرملة التدهور الحاصل في مكانة إسرائيل الدولية، جرّاء ما تقترفه من جرائم في غزة. وصرح نتنياهو قبلها في العاشر من الشهر أغسطس/آب الحالي أنه يسعى إلى «إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن» وأنه أصدر أمراً للجيش لتقصير مدة الجدول الزمني لاحتلال غزة.

هذه نغمة جديدة نسبيا في خطاب نتنياهو السياسي والأمني، فهو تجنّب في الماضي التطرق إلى مسألة «إنهاء الحرب»، وفقط مؤخرا صار يتحدث عن «الإسراع» في الوصول إلى نهايتها. وكما في كثير من الحالات هناك بون شاسع بين أقوال وأفعال نتنياهو، يقول «اسرعوا» لكنّه يدفع بخطط جديدة يستغرق تنفيذها وقتا طويلا، بل إن بعضها مستحيلة التطبيق، ما يجعلها مرشّحة لأن تطول طول بقائه في السلطة.

يظهر أن نتنياهو شرع في إنشاء تركيبة جديدة للمواقف والتوجهات الإسرائيلية، تنطلق من «طلاق» الصفقة الجزئية، التي كانت قريبة المنال، وشملت وقف إطلاق النار لمدة 60 يوما، ما يعني أن لا هدنة مقبلة في المستقبل القريب. وإذ يدعو نتنياهو (وخلفه ترامب) إلى الاندفاع في حرب احتلال كامل لغزة، إلى أن تنضج الظروف لصفقة شاملة، فهو يعلم جيّدا أن التوصل إلى اتفاق شامل يستغرق وقتا طويلا، ومن المستبعد جدا أن يجري إتمامه قبل أن تنهي آلة الحرب والإبادة والدمار الإسرائيلية مهامها الفظيعة المعادية للإنسانية في غزة. ويجمع المحللون على أن خطّة احتلال غزة، التي أقرها الكابينت الإسرائيلي، تحتاج إلى أشهر طويلة من العمل العسكري، وقد تستغرق سنوات، وهذا لا يستوي مع دعوات التعجيل التي خرج بها نتنياهو ورددتها أبواقه الدعائية. يصر نتنياهو على أن العملية العسكرية، التي أقرّها الكابينت، كفيلة بتحقيق أهداف الحرب المعلنة، وهي القضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس، وتحرير المحتجزين كافة، ومنع تحويل غزة إلى تهديد على إسرائيل، وهو يكرر كلامه عن تهجير «طوعي» للغزيين ويدعي أنه يجرى اتصالات مكثفة مع عدة دول مرشّحة لاستقبالهم. وقد عرض نتنياهو، هذا الأسبوع، شروطه لإنهاء الحرب، وهي في حقيقتها شروط «ملغومة» تصلح لتسويغ استمرار الحرب لا إنهاءها:

الشرط الأول، نزع سلاح حماس: لقد طرحت عدة بدائل إسرائيلية ودولية لهذا المطلب، الذي يصر عليه نتنياهو كأحد الشروط المسبقة لإنهاء الحرب. فقد طرح الجنرال المتقاعد، جيورا آيلاند، فكرة تأجيل نزع سلاح حماس إلى ما بعد نهاية الحرب، ولاحقا اشتراط إعادة الإعمار بنزع سلاحها، وذكر مئير بن شابات الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، أن الولايات المتحدة منفتحة (أو كانت منفتحة) على هذا لفكرة. وهناك أغلبية ساحقة من الإسرائيليين تؤيّد وقف الحرب وإطلاق سراح المحتجزين جميعا، وحل قضية «سلاح حماس» بعد انتهاء الحرب. نتنياهو يعلم جيّدا أن حماس تعتبر تسليم سلاحها بالكامل نوعا من الاستسلام، وهو يصر عليه لهذا السبب بالذات كضمانة لمواصلة القتال. ولا يبدو أن هناك مجازفة في القول إنه لو سلمت حماس كل أسلحتها فإن نتنياهو لن يسارع إلى وقف حرب الاحتلال والتهجير والتدمير والإبادة في غزة.

الشرط الثاني، تحرير جميع المحتجزين: يصر نتنياهو (في العلن على الأقل) على أنه بالإمكان تحقيق هدفي الحرب الرئيسيين: القضاء على حماس وإعادة المحتجزين. ويقول معارضو نتنياهو إنه يكذب ويضلل، ولكن حتى في اليمين بدأت تصدر أصوات تشكك في صدقية خطاب نتنياهو. وفي هذا السياق كتب الصحافي اليميني المعروف والمؤثّر عميت سيجال، أن على نتنياهو أن يقف أمام الجمهور ويقول الحقيقة «لن يتحرر المخطوفون في صفقات جزئية، والاستسلام (القبول بشروط حماس) غير وارد، ولا بد من الانطلاق في الطريق (لاحتلال كامل لغزة) ويستحق الجمهور أن يقولوا له الحقيقة المؤلمة». وببساطة يمكن القول إن إطلاق سراح المحتجزين ممكن فقط في إطار صفقة، وأن العملية العسكرية تهدد حياتهم لا تنقذها. ويبدو أن الخلاف في إسرائيل وصل إلى الحد الفاصل بين من يؤيدون تحرير جميع المحتجزين، ولو بثمن إنهاء الحرب، ومن يدفعون إلى مواصلة الحرب ولو بثمن موت المحتجزين.

الشرط الثالث، غزّة منزوعة السلاح: شرح نتنياهو هذا البند قائلا في مؤتمره الصحافي هذا الأسبوع: «هذا يختلف عن نزع سلاح حماس، فهو يعني منع إمكانية تصنيع السلاح ومنع إمكانية تهريب السلاح إلى القطاع». والسؤال كيف ستضمن إسرائيل ذلك؟ ويبدو أن المقصد هو فرض رقابة مشددة على الحدود المصرية وعلى شاطئ غزة، ويبدو أيضا أن إسرائيل تسعى إلى ثلاث طبقات من الرقابة: عربية ودولية وإسرائيلية، بحيث تكون الأخيرة هي الحاسمة. ولا تنحصر غايات إسرائيل من هذا الشرط بأن تكون غزة منطقة منزوعة السلاح فحسب، بل هي تنوي استعماله كمبرر للتدخل العسكري في غزة حتى بعد وقف إطلاق النار على غرار «النموذج اللبناني»، بالادعاء أنها «اكتشفت» خرقا للاتفاق وتهريب أو تصنيع، أو حتى حيازة أسلحة.

الشرط الرابع، سيطرة أمنية إسرائيلية على قطاع غزة: وصف الجنرال المتقاعد يعقوب عميدرور، هذا الشرط قبل أكثر من سنة ونصف السنة بالقول: «يجب أن يكون قطاع غزة كلّه مثل منطقة (أ)، التي يستطيع الجيش «أن يدخلها كيفما يشاء، ومتى يشاء، وأينما يشاء». ويشمل المفهوم الإسرائيلي للسيطرة الأمنية الكاملة، بالحد الأدنى، الاستيلاء على شريط حدودي بعمقً معدّله أكثر من كيلومتر على طول الحدود، ما يعني اقتطاع حوالي 20% من مساحة قطاع غزة.

الشرط الخامس، إدارة مدنية مسالمة غير إسرائيلية: هذا ما جاء في النص الذي عرضه نتنياهو في مؤتمره الصحافي باللغة الإنكليزية، وجرى فيه التأكيد على أن الإدارة لن تكون إسرائيلية، لتوجيه رسالة إلى الرأي العام العالمي بأنه لا توجد نية لاحتلال دائم، أو ضم لقطاع غزة. وجاء النص العبري بصياغة مختلفة «حكم مدني بديل، ليس حماس وليس السلطة الفلسطينية»، في محاولة للانسجام مع المزاج اليميني السائد في الشارع الإسرائيلي، وطمأنته بأن حكم غزة سيكون نقيضا لما كان عليه حكم حماس في غزة، ومغايرا عن نظام السلطة الفلسطينية في الضفة. هذا شرط تعجيزي بامتياز، لأنه من شبه المستحيل أن تقبل أي جهة فلسطينية، أو عربية، أو حتى عالمية المشاركة في إدارة القطاع بعيدا عن الإرادة الفلسطينية المستقلة عن إسرائيل، لأن الإدارة التي تريدها إسرائيل ستكون وكيلة للاحتلال لا أكثر. ثم إن هذا الشرط سيكون ذريعة لبقاء الاحتلال حتى بعد نهاية الحرب، فحينها ستدعي إسرائيل أن جيشها لن ينسحب حتى يتم إنشاء إدارة مقبولة عليها. وبالنسبة لتأثير هذا المطلب على مجريات الحرب، يقول يعقوب عميدرور، الذي «يفكّر مثل نتنياهو»، بأنه «يجب القضاء على حماس حتى النهاية، حتى لا تشكّل تهديدا داخل قطاع غزة (وليس فقط على إسرائيل ج. ز) وعندها يمكن أن يدخل جسم ثالث لتحمل مسؤولية غزة.. اليوم لا أحد يقبل بذلك لأنه سيضطر إلى محاربة حماس».

أعلن نتنياهو «الشروط الخمسة» لإنهاء الحرب، لكنّها في حقيقتها شروط لمواصلة حرب الإبادة. ولا يبدو أنّه ينوي وقف الحرب طالما استطاع إطالتها. المطلوب أن يكون هناك ضغط دولي جدّي وليس فقط وعود بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. الدم ما زال ينزف والأطفال يموتون جوعا والإبادة مستمرة والدمار يتراكم، وعلى القيادة الفلسطينية والعربية أن تتحمل المسؤولية، وتغيّر سياساتها وسلوكها، فالاستمرار بالطريقة نفسها يأتي بالنتائج ذاتها، وهي فظيعة بكل المقاييس. يمكن للعرب أن يحركوا العالم للضغط على إسرائيل. الدولة الصهيونية هي دولة صغيرة، ومواردها الذاتية المستقلة محدودة، وهي حساسة للضغط الدولي أكثر من غيرها، وشعبها «مدلل» ولا يتحمل تراجع مستوى وجودة الحياة، ومفعول «الهجرة الطوعية» قد يجتاح المجتمع الإسرائيلي في ظروف معيّنة. وعليه وَجَبَ الواجب يا عرب: العمل على وقف الحرب وعدم الاكتفاء بالكلام عن ذلك.

عن القدس العربي

شاركها.