لجنة البشير الأمنية.. محاولات التمترس وراء الأقنعة

د. عبد الله عابدين

ثمة ما يشي به الوضع الجديد، الذي سندرك سره في الرابط بين الرجلين، البرهان وحميدتي، والذي يكمن في ضلوعهما في صفقة إرسال الجنود السودانيين الى حرب اليمن، تلك الجريمة التي تضاف الى سجليهما الاجراميين. وهنا يظهر رجل السعودية والأمارات، المدعو طه عثمان، الذي كان حميدتي يحلم بإدراجه في المجلس العسكري، لما له، هو الآخر، من علاقات وطيدة تتصل بملف دور السودان في حرب اليمن..

بعد اكتمال تشكله، يقسم المجلس العسكري نفسه الى لجان عديدة. وعندئذ يظهر أحد الوجوه المعروفة بإنتمائها القوي الى تيار المتأسلمين ذوي الولاء والبراء، أصحاب الدعاوي، والقسم المغلظ، الذي يتبعه قسم مغلظ آخر، زوراً وبهتاناً. ولا أحد يستعجب، اذ أن هذا هو ديدنهم، ومألوف عادتهم، تمادياً في نفيهم عن أنفسهم أرتال الأكاذيب التي كانوا يرسلونها ارسالاً، وهم تحت تأثير غمرة السلطة المسكر. ولم يكن هذا الضابط المتأسلم استثناءَ من هذه السمات، فهي لازمة من لوازم التدرق بسلطة الدين، وأشكال السلطات الأخرى، يجمعونها في أيديهم بحرص لا يدانيهم فيه أحد من العالمين. من أعني هنا، اذا لم أكن أعني عمر زين العابدين، أحد أكثر وجوههم تطرفا آن ذاك؟!..

وكان زين العابدين هذا، فيما يبدو، يتميز بقدرات خطابية ذات طابع مهووس، تعتريه حين يتحدث، علامات تشنجية بينة، أو قل مبينة، عن خلفيته الاسلاموية المتعصبة. وقد كان زين العابدين كثير الظهور في الإعلام في تلك الفترة، ذلك بأن مجلس العكسرتاريا المنعقد تواً، خائبا في تقديره، ظن أنه يحسن صنعا بايكال رئاسة اللجنة السياسية اليه.

وصار زين العابدين بهذه الصفة، الواجهة البارزة في الحوار الذي بدأ بين المجلس العسكري الانتقالي، من جهة، وبين ممثلي قوى الحرية والتغيير، من جهة أخرى. فما كان من ممثلى هذه القوى الا أن رفضوا الاستمرار في التفاوض مع هذا الوجه البادي الإسلاموية، هذا الى جانب رفضهم أيضاً لاثنين آخرين من أعضاء المجلس العسكري، فتم إبعادهم، ولكن بعد حين.

وقد سبق كل هذا اعتراف واضح من قبل المجلس العسكري الانتقالي بقوى الحرية والتغيير، كممثل شرعي للحراك الثوري، وللقوى الثورية المعتصمة أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة. وعلى الرغم من هذا الاعتراف الواضح والصريح بهذه القوى، الا أن المجلس العسكري كانت تعتريه فترات من ضبابية الرؤية، فلا يكاد يثبت على موقف واحد، مما انعكس سلباً على ثقة قوى الحرية والتغيير به.

وكانت هذه المواقف المتذبذبة تعود في جلها الى رجوعه المتكرر الى مجاميع من القوى الأخرى، الكثير منها بقي في سفينة النظام البائد حتى غرقها، بالإضافة الى مجاميع كانت تدعو الى “نصرة الشريعة”، وهم الى التجارة بالدين أقرب. وكان كثير من هؤلاء دعاة فتنة: إذ ما دخل الفترة الانتقالية بهذه الشئون، مثل “نصرة الشريعة”؟! تلك الشئون التي يجب تركها للمؤتمر الدستوري الجامع المزمع عقده في نهاية الفترة الانتقالية.

وقد بدأت جلسات الحوار بين ممثلي قوى الحرية والتغيير، والمجلس العسكري، بعد أن اختار كل فريق ممثليه لهذا الحوار. واتبعت عملية الحوار بين المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير، مساراً متأرجحاً، من جلسات حوار تتقدم قليلاً، وأخرى “مكانك سر”، لا يجني فيها المتحاورون أية ثمرة. والأدهى والأمر هو ما كان يتبع هذه الجلسات الحوارية من انقطاع، أو تعليق للحوار، في غالب الأحيان من قبل المجلس العسكري، أو بسببه، لتعود بعدها للانعقاد مرة أخرى، وهكذا..

وكانت هذه العملية تتعرض لأوقات عصيبة، حيث يتم التراجع، عن بعض ما اتفق عليه، أو حتى كل ما تم الإتفاق عليه مسبقاً، و هذا ما حدث في مرحلة من مراحل التفاوض، للأسف الشديد، من قبل المجلس العسكري، حيث تراجع الأخير عن كل ما تم الإتفاق عليه. و هكذا تم نسف كل ما تراكم من مجهود طويل و مضن، كان من المأمول فيه تعزيز و إرساء قواعد توافق، يسعى طرفيه الى تجنيب البلاد عواقب لانظام، و فوضي، كانت قد منيت بها دول كثيرة أخرى. و قد تجسد هذا بصورة خاصة في المحيط العربي في أعقاب ثورات ما عرف بالربيع العربي، ثورات تحولت الى حروب، و نزاعات مسلحة، في ليبيا و اليمن و سوريا. هذا فضلاً عن مظاهر التدويل و صراع الأمم الكبرى على أراضيها، و احتمالات التفتت و الإنقسام و التشرزم ..

و كان اعتراف المجلس العسكري، بقوى الحرية و التغيير كممثل شرعي لقوى الثورة، هو الأساس الذي بنى عليه حواره معها، أما شرعيته نفسها، فهي ترجع الى فرضه نفسه كحكومة أمر واقع. و على هذا الأساس الإفتراضي، بدأ المجلس العسكري في اتخاذ القرارات، و اصدار الأحكام ذات الصبغة التنفيذية، و التشريعية، ثم انه تمادى في هذا السلوك الذي تعوزه الحكمة، حيث بدأ نائب رئيس المجلس، حميدتي، في مقابلة السفراء، و البعثات الدبلوماسية بالقصر الجمهوري. و لا يدري أحد: لماذا نائب رئيس المجلس، و ليس الرئيس، البرهان، نفسه، هو الذي يقوم بذلك، رغم أن الأخير موجود!! .. هذا بالطبع اذا كان هذا السلوك، أو الإجراء، شرعياً من أصله، أما الحكمة فقد جافته تماماً!! ..

و لكن أشنع ما قام به المجلس العسكري في هذه الفترة فتتمثل في اظهاره الانحياز لمحور اقليمي معروف. و قد تجلى ذلك في قيام نائب رئيس المجلس العسكري، حميدتي، مرة أخرى، بزيارة دولة مجاورة يرافقه شمس الدين الكباشي، دون اعلان مسبق لذلك، مما يشكل خرقاً فاضحاً للكيفية التي تدار بها هذه الشئون. أضف الى ذلك، تلك الزيارات الماكوكية التي اجترحها رئيس المجلس العسكري الانتقالي، البرهان، لجمهورية مصر العربية، و مقابلته للرئيس عبد الفتاح السيسي، خاتماً جولته بزيارة لدولة جنوب السودان، ثم الجارة أثيوبيا. و السؤال هل هذه الزيارات العاجلة، و ذات الأهداف الغير واضحة، منسقة بين البرهان، و حميدتي، أم أنها مؤشر علي وجود صراع خفي في أعلى قمة هذا المحلس؟! ..

يبدو أن هذا المجلس لا يفقه حرفاً مما يعرف بمبدأ الشفافية، و قد بدت هذه الأمية السياسية جلية في عدم إعلانه مسبقاً عن أي من هذه الزيارات، التي تعتبر خطوات محرمة على المجلس العسكري حيث ان السودان الجديد، سودان ما بعد الثورة، معول عليه أن يلعب أدواراً استراتيجية، بالوقوف على مسافة واحدة من هذه المحاور الاقليمية. أكثر من ذلك فانه يجب أن يلعب أدواراً رائدة في التوسط لحل المشاكل الاقليمية، و في فض النزاعات. و هذا لا يتأتى الا بعد أن يقوم هذا السودان الجديد بترتيب بيته الداخلي أولاً، و ذلك بالعمل الجاد على احلال السلام في ربوعه، و من ثم لم شمل شعوبه و اثنياته و فق خطوات مرتبة في كل أولئك.

ألا ترون معي أن ما يسمى بالمجلس العسكري هو نسخة جديدة ملمغة للجنة البشير الأمنية؟! و هل غيرها يفتن في تبديل الأقنعة، حسب ما تملية نظرته الميكافيلية، في تمرير ألاعيبه، و خدعه، المعدة وراء كواليس مسرح سياسة العبث التي اعتادها و أتقنها؟! وهل ثمة أصوب من نعته بالقدرة الحربائية على تغيير الألوان، واصطناع الأقنعة، والتمترس وراءها؟! ..

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.