رويدة مطر

نظرياً وعملياً، تعرف العودة الطوعية بأنها عملية عودة اللاجئ أو طالب اللجوء إلى بلده بمحض إرادته، دون ضغط أو إكراه، وذلك بعد التأكد من توفر عدة شروط على رأسها السلامة والكرامة والاستدامة في بلد العودة. وكلمة طوعية هنا نعني بها أن تكون العودة خالية من الإكراه أو التهديد أو الضغط، وأن يتخذ الشخص القرار بناءً على معلومات صحيحة وواضحة عن الوضع في بلده الأصلي. كما يجب أن لا تتم العودة في ظروف مهينة أو مذلة أو دون ضمانات للحقوق الأساسية. والأهم من ذلك هو مبدأ الاستدامة، أي يجب أن تتوفر إمكانيات الاستقرار الطويل الأمد، وليس فقط العودة المؤقتة أو الرمزية.

العاقل يفهم ويعرف أن السودان لم يصل بعد إلى الحد الأدنى من هذه الشروط، حتى بعد “خروج أو هزيمة ” الدعم السريع من ولايات مثل الخرطوم والجزيرة أو حتى الأقاليم التي لم تدخل ساحة الحرب بشكل مباشر مثل الشرق. كلها لا تتوافق فيها أي من مبادئ مصطلح العودة الطوعية. لذلك، وهرباً من الانتقادات حول توفر أو عدم توفر أركان العودة الطوعية، اعتمدت حكومة البرهان استخدام مصطلحات مثل العودة الكريمة والعودة الآمنة.

وفي هذا السياق، تبدو العودة الطوعية أقرب إلى الشعار السياسي. وقد لجأت حكومة البرهان إلى تجاوز هذا المأزق اللغوي بالتحول إلى استخدام مفاهيم مثل “العودة الآمنة” و”العودة الكريمة”. لكنها مصطلحات لا تقوم على أساس موضوعي، إذ لا تستند إلى أي إجراءات فعلية من تهيئة بيئة آمنة كجمع السلاح المنتشر وضبط السيولة الأمنية في مدن مثل الخرطوم التي تشهد معدلات جريمة عالية، ولا تحقق أي من شروط العودة الطوعية التي ترتبط بوقف الحرب، إزالة خطر العنف والجريمة، أو ضمانات الحماية من التجنيد أو التمييز العنصري، ولا خطوات فعلية لإعادة الإعمار مع انهيار تام للخدمات الأساسية.

لذلك رأت حكومة البرهان أن تستخدم هذه العبارات البديلة لتجاوز الاشتراطات التي تفرضها القوانين والأعراف الدولية، وكذلك لشرعنة إعادة السودانيين بخطاب عاطفي يقوم على فكرة أن أمنهم وكرامتهم في عودتهم إلى وطنهم، دون أن يفكروا في واقعية هذه العودة، في ظل استمرار الحرب والانهيار المؤسسي الشامل وانعدام الخدمات الأساسية..

أولا: هل العودة أداة تعبئة جديدة؟

السياق التاريخي للكيزان يرتكز على أن التجنيد جزء لا يتجزأ من سياستهم ومرتبطًا بفلسفتهم الأيديولوجية. لذا رغم أن هنالك اختلافات وانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، ترتكز في جوهرها على التوجهات السياسية والأيدلوجية داخل الجيش بين مواليين للتيار الإسلامي/ الكيزان وضباط تقليديين أو محايدين، إلا أن التوجه الإسلاموي داخل الجيش هو المؤثر والمحرك الأساسي. هذا التيار يدعم استمرار الحرب مهما طال الزمن، ويسعى لاستعادة نفوذه داخل الدولة من خلال التحكم بالقرار العسكري. ويعمل على إعادة إنتاج نموذج الإنقاذ، وذلك بتصدير مشهد وطني جديد يستند إلى ثوابت محددة هي أن السودان يجب أن يحكم فقط عبر مشروع إسلامي شمولي لضمان أمنه، وأن الدعم السريع “انحراف وخطأ يجب القضاء عليه” وأن القوى المدنية “خائنة وعميلة وتفكيرها مقتصر على السلطة”.

هذا التيار لا يكتفي فقط بعناصره داخل الجيش، بل أيضا على عناصره وكتائبه الظليّة المسلحة التي ابتدعها ودربها وجهزها في الخفاء تاريخياً مثل البراء وغيرها، تأتمر بأمره وتحقق رؤاه. هذه الكتائب تكونت خارج أسوار الكلية الحربية أو معسكرات الجيش المعروفة. هي نتاج سياسات مصممة للتجنيد والتعبئة الشعبوية. لذلك تاريخياً، شهد التجنيد في السودان خلال “عهد الكيزان” تحولًا جذريً ما بين التجنيد القسري والدعوات إلى “الجهاد” لحسم الصراعات الداخلية. بدأً من قانون الخدمة الوطنية لعام 1992، قوات الدفاع الشعبي شبه العسكرية في 1998، التجنيد القسري بين أعوام 1995 2002 الذي جند آلاف من طلاب المدارس الثانوية اللذين دُربوا تدريباً سريعاً وخفيفاً في معسكرات التدريب؛ ومن ثم إلى جبهات القتال. علماً أن أهداف هذا التجنيد لم تقتصر فقط على التعبئة العسكرية، بل أيضا تضمنت التأهيل الأيدولوجي الكيزاني.

وفي ظل هذا السياق التاريخي في النهج الكيزاني، نرى أن هنالك توافقاً زمنياً بين توقيت الدعوة إلى عودة السودانيين بجدية وتنسيق عال وبين تنحى أحد أهم الأذرع التعبوية المقاتلة في الحرب (كتائب البراء) عن العمل العسكري واتجاهها للعمل المدني كما أعلنت، وحتى وإن كثرت التحليلات حول حقيقة وأهداف هذا القرار، أقدم فرضيتين “عرضياً”، الأولى وهي ليست مستحدثة تقوم علي أن هذه الخطوة التكتيكية حدثت بمباركة البرهان ضمن اتفاق مسبق أو مستحدث بهدف السيطرة على العمل المدني والتحكم فيه لضمان التمركز المستقبلي وفق أي من الخيارات، والثانية وهي ما أذهب إليه، وهي أن تنحي كتائب البراء نابعاً من فرضية أنهم يتبعون عقيدة الكيزان الحالية في أن لا ضير من تقسيم السودان مجدداً والتخلي عن الغرب جزئياً بحمولاته التاريخية العصية. وبالتالي مواصلة الحرب في الغرب ليست من أولوياتهم ولا حوجة لخسارة بشرية أكبر.

بغض النظر عن الفرضية أو التحليل الأصح، فإن كتائب البراء وفق تقارير تضم أكثر من 20 ألف مقاتل بأنظمة تسليح متوسطة وثقيلة وقدرة على التعبئة الشعبية كبيرة، هذا التنحي بالتأكيد يفقد القوات المسلحة عددا ضخما من المقاتلين المدربين وذراعا تعبويا مهماً. فحقيقة أن الجيش يحتاج إلى التعبئة الشعبوية لمواصلة الحرب خصوصا في أقاليم الغرب أمرا حتمياً. فهل يسعى البرهان إلى تعويض هذا الفاقد البشري بتجنيد العائدين خصوصا الشباب؟

ثانياً: العودة من أجل الكرامة والأعمار

ماذا قد يعني الإعمار لحكومة انقلابية، يسيطر عليها نظام ثار عليه الشعب بعد عقود من الظلم والتدمير الممنهج للحياة المدنية، والسياسية، والقتل، والترويع؟ الأعمار عندهم لا يعني تأهيل المدن والمرافق العامة وبسط الأمن وتأمين الخدمات الأساسية. وهذا ليس تحليلاً من شخصي الضعيف، ولكن هذه الحكومة بدأت بخطاب يتحدث عن الإعمار بعيداً عن أصل المشكلة والخراب وقف الحرب. بدأت قبل أن تمشي في خطوات فعلية لمواجهة الضائقة الاقتصادية والكارثة الصحية، أو وجود خطة معلنة عن الإيواء أو دمج العائدين في الحياة المدنية في الولايات والمدن، أو حتى تأهيل جزئي للمنازل المدمرة.

وعندما صعب علي حكومة بورتسودان أن ترجع السودانيين المنهكين والمغلوبين علي أمرهم طوعاً، رأت أن تستنفر حليفتها مصر، التي زادت الضغط على السودانيين لتشجع العودة مستخدمة عدة آليات أهمها خلق بيئة تدفع نحو العودة، متمثلة في التشدد في شروط الإقامة، تقليص الخدمات والدعم الإنساني عن طريق تعمد ضعف التنسيق مع مفوضية اللاجئين والتضييق على المنظمات التي تدعم السودانيين، الترحيل العشوائي، دعم خطاب الكراهية ضد السودانيين، نشر سرديات عن استقرار في السودان وعودة مؤسسات الدولة في منصات إعلامية محسوبة على النظام المصري وغيرها.

علي قرار هذه الفرضية، هل تحاول حكومة البرهان استباق المسارات السياسية المستقبلية من خلال التحكم في وتشكيل نموذج سكاني داعم ومساند، ويشكل قاعدة لها؟ أم فقط تحاول أن تحقق نجاحات واستخدام العودة الطوعية أو “عودة تأمين الكرامة” كمشروع سياسي وخلق شرعية لسلطة بورتسودان؟

مصر: ضغط إقليمي أم دعم حليف؟

يجب علينا أولا أن نذكر أن مصر دولة موقعة على الاتفاقيات الدولية الأساسية الخاصة باللاجئين مثل اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967 وكذلك على اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1969 التي تحكم الجوانب المحددة لمشاكل اللاجئين في أفريقيا.

وبالتالي من المتوقع أن يخضع تعاملها مع ملف اللاجئين في المقام الأول للاعتبارات الإنسانية والقانونية وفق بنود هذه الاتفاقيات. إلا أن القانون المصري الجديد للاجئين (رقم 164 لسنة 2024) والذي انتقدته عدة منظمات دولية متخصصة في حقوق الإنسان علي رأسها (هيومن رايتس ووتش) التي ذكرت في بيان صحفي لها في ديسمبر 2024 إن “مشروع قانون اللجوء المصري، إذا اعتُمد، ينتهك حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء. يعيق القانون عمل وكالات “الأمم المتحدة” والجهات الأخرى التي تُقدّم خدمات حيوية، وينتهك التزامات مصر بموجب القانون الدولي. وأنه “بموجب هذا القانون، فإن المعايير التي تستبعد الأشخاص من اللجوء، أو تلغي وضعهم كلاجئين فضفاضة جدا، ولا تتفق مع معايير اتفاقيات الأمم المتحدة أو اتفاقيات اللاجئين الأفريقية”. هذا التناقض يجعلنا مؤمنين أكثر أن مصلحة مصر في إعادة السودانيين قسرا أو حتى عن طريق تسهيل خروجهم ليس فقط للسودان إنما أيضا إلى ليبيا؛ وبالتالي أوروبا لها عدة أبعاد مترابطة.

السياق العام يعكس أن مصر تتعرض لضغوطات داخلية سياسيا واقتصادياً. فقد استقبلت أكثر من 1.2 مليون لاجئ منذ أبريل 2023، مع أعداد مسجلة تتجاوز 600 ألف و912 ألفاً قدّموا طلب تسجيل لدى المفوضية، بينما سجلت 623 ألفاً منهم بشكل رسميً علي حسب تقارير وثقتها UNHCR وUNICEF. الغالبية العظمى منهم فضلوا الاستقرار في القاهرة. لذلك وخوفا من استمرار الضغط السكاني والاقتصادي في القاهرة قد تحاول الحكومة المصرية التضييق على مستوى القاهرة أكثر لضمان خروج اللاجئين السودانيين إلى المحافظات الأخرى أو العودة إلى السودان.

أيضا، لطالما استخدمت مصر ملف اللاجئين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي والدول المانحة للحصول على دعم مالي مباشر أو مشاريع اقتصادية كبيرة (بدل استضافة) مقابل التلويح بتسهيل الهجرة عبر المتوسط، مراهنة على استجابة أروبا خوفا من التهديدات الأمنية على حدودها من الهجرة غير الشرعية، حيث أي تسهيل من مصر لخروج السودانيين تحديدا نحو ليبيا يشكل تحديا وتهديدا أمنيا لأروبا.

مستجدات أخرى قد حفزت مصر لتبني هذه الحملات تتمثل حول اجتماع اللجنة الرباعية من أجل دعم السودان المزمع انعقاده في الولايات الأمريكية المتحدة والذي أُجِّل مؤخرا، هذا يعطينا بعدا آخر قد يكون من الأسباب التي حفزت مصر إلى هذه الهجمات غير الإنسانية تجاه ترحيل السودانيين قسراً. وهوان مصر قد تفكر في استخدام ملف اللاجئين لتقوية موقفها في اجتماع اللجنة الرباعية. كونها الدولة التي تتحمل العبء الأكبر من اللاجئين؛ مما يعطيها موقعاً أكبر علي عكس الدول الأخرى التي تتعامل مع الأزمة في السودان من منظور أمني وسياسي وتمويلي فقط. هذا العنصر الميداني (أي اللاجئين) يعطيها الحق في تدخل أكبر في القرارات ورسم خريطة النفوذ السياسي والأطراف القائمين على هندسة أي تسوية سياسية محتملة بما يتماشى مع مصالحها. في كل الأحوال مصر تربط الملف الإنساني بالملف العسكري.

التقدير الأقرب، والذي يتماشى مع ما يقدمه هذا المقال وهو أن مصر تساعد حليفها البرهان الذي يفكر في تجنيد العائدين/آت لتعويض كتائب البراء والخسائر البشرية في مواجهة الدعم السريع في غرب السودان. هذا التقدير يستند إلى حقيقة أن مصر تدعم الجيش، وترى في البرهان حليفا استراتيجيا لها والامتداد الطبيعي لنموذج الدولة العسكرية المركزية التي تسيطر عليها. لذلك قد تشكل الحركة العكسية من مصر إلى السودان نسبة للتضيق من قبل الحكومة المصرية على اللاجئين السودانيين خيارا مناسبا وقريباً.

أما عن الادعاء أن مصر تحارب التنظيمات الإرهابية المتطرفة وتمسكها بالبرهان يأتي من فرضية أنها ترى في البرهان بجيشه خصماً لهذه التنظيمات وتأميناً لحدودها الجنوبية وغيرها، فهذه فرضية غير صحيحة ومصر نفسها غير مؤمنة بها لمعرفتها أن السودان تحت حكم الجيش قد احتضن الكثير من هذه الحركات المتطرفة. لذا يمكن أن نقول إن مصر قد صممت جيدا هذه العودة عن طريق التسهيل الرسمي وغير الرسمي من ترحيل قسري وتضييق أمني، السرد الإعلامي ضد اللاجئين السودانيين ودعم خطاب الكراهية.

يقف السودانيون اليوم بين نار الحرب ونار العودة. العودة التي ليست خياراً، بل واقع يفرض دون أن تتغير جذور الأزمة. إلى متى سيظل الشعب السوداني وقوداً لمطامح السلطة، الوقود المجاني الذي لا قيمة له.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.