مقدمة: علاقةٌ أعاد تشكيلها الصراع
تقدم هذه الدراسة تحليلاً معمقاً للديناميكيات المتغيرة في العلاقات المصرية السودانية في ظل الحرب الأهلية المدمرة التي اندلعت في السودان منذ أبريل 2023. وتجادل هذه الورقة بأن التحركات المصرية الأخيرة تجاه السودان لا تمثل حالة بسيطة من الهيمنة الانتهازية، بل هي استراتيجية محسوبة قائمة على “البراغماتية الدفاعية”. لقد أدى الضعف العميق الذي أصاب الدولة السودانية، وتصدع مؤسساتها بفعل الحرب، إلى خلق تهديد وجودي على الخاصرة الجنوبية لمصر. هذا الوضع دفع القاهرة إلى تشكيل تحالف قائم على المصالح المتبادلة مع القوات المسلحة السودانية، التي تعتبرها مصر الحصن الأخير للدولة السودانية. وفي إطار هذه الشراكة غير المتكافئة، يتم حل النزاعات طويلة الأمد لصالح مصر، كثمن لتقديمها شريان حياة سياسي وعسكري لا غنى عنه للقوات المسلحة السودانية.
لفهم هذه العلاقة المعقدة، سيتناول هذا التقرير أولاً السياق الحرج الذي تعمل فيه حكومة الفريق عبد الفتاح البرهان، من خلال تشريح حالة الدولة السودانية المتداعية. بعد ذلك، سيقوم التقرير بتحليل ثلاث ركائز أساسية تعكس جوهر الاستراتيجية المصرية، وهي: التسوية المحتملة لنزاع مثلث حلايب، والتحالف الدبلوماسي الموحد ضد إثيوبيا، وطبيعة الدعم المصري المقدم للقوات المسلحة السودانية. ومن خلال هذا التحليل، سيكشف التقرير كيف أن ضعف الدولة السودانية لم يمكّن مصر من تحقيق مصالحها الأمنية فحسب، بل أعاد أيضاً رسم الخريطة الجيوسياسية لحوض النيل والقرن الأفريقي.
القسم الأول: تشريح دولة متداعية مأزق الحكومة السودانية بعد عام 2023
إن فهم الاستراتيجية المصرية تجاه السودان يستلزم أولاً إدراك حقيقة الوضع الذي تعيشه حكومة الفريق عبد الفتاح البرهان. فهي ليست حكومة تقليدية تمارس سيادتها الكاملة، بل هي قيادة فصيل رئيسي في حرب أهلية مدمرة، تعمل من موقع ضعف شديد على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. هذا الضعف الهيكلي هو المتغير الأساسي الذي مكّن مصر من فرض أجندتها وتأمين مصالحها الاستراتيجية.
الفشل السياسي والدبلوماسي
اندلعت الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، كنتيجة مباشرة لفشل العملية السياسية في البلاد. وبعد مرور ما يقرب من عامين، لا تزال فرص التسوية السياسية بعيدة المنال. لقد أخفقت المبادرات الإقليمية والدولية، مثل “منبر جدة التفاوضي” الذي قادته السعودية والولايات المتحدة، ومبادرة الهيئة الحكومية لتنمية دول شرق إفريقيا (إيغاد)، في تحقيق أي اختراق يذكر. ويعود هذا الفشل إلى تضارب مصالح القوى الإقليمية، وغياب الإرادة السياسية لدى طرفي النزاع، واتهام الحكومة السودانية لبعض الوسطاء بالانحياز لقوات الدعم السريع. هذا الجمود الدبلوماسي وضع قيادة القوات المسلحة السودانية في عزلة متزايدة، وجعلها في أمس الحاجة إلى حلفاء موثوقين يمكن الاعتماد عليهم لتوفير الغطاء السياسي والدعم اللازم في المحافل الدولية.
الجمود العسكري وفقدان السيطرة على الأرض
على الرغم من أن القوات المسلحة السودانية تمكنت من استيعاب الصدمة الأولى للحرب، وحققت مؤخراً بعض التقدم الميداني، واستعادت السيطرة على مناطق مهمة، مما وضعها في موقف عملياتي أفضل مما كانت عليه في بداية الصراع ، إلا أن الحرب لم تُحسم بعد. لا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، خاصة في إقليم دارفور وولايات الجنوب ، بل وأعلنت عن تشكيل حكومة موازية في أبريل 2025 لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها. تستمر الاشتباكات العنيفة في جبهات متعددة، أبرزها العاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر، مما يعكس حالة من الجمود العسكري الدموي. هذا الوضع يعني أن القوات المسلحة السودانية، رغم صمودها، لا تزال بعيدة عن تحقيق نصر عسكري حاسم، وتعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي للحفاظ على زخمها العملياتي ومنع انهيار جبهاتها.
الكارثة الاقتصادية والإنسانية
تسببت الحرب في كارثة إنسانية غير مسبوقة وانهيار اقتصادي شامل. وقد اعترف الفريق البرهان شخصياً بحجم التحديات الاقتصادية الهائلة التي تواجه البلاد نتيجة للحرب التي “أنهكت الشعب السوداني وأفقرت جزءاً كبيراً منه”. لقد دمر الصراع البنية التحتية الحيوية، وأدى إلى تدهور شبه كامل في قطاعي الصحة والتعليم، وتسبب في خسائر فادحة في القطاع الصناعي تقدر بمليارات الدولارات. كما أدى إلى انخفاض حاد في الإيرادات الحكومية وتدهور قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات قياسية. وتواجه الحكومة عبئاً إضافياً يتمثل في توفير الخدمات للمواطنين العائدين إلى مناطق تم نهبها وتدميرها بالكامل، مما يفاقم من الأزمة.
إن هذا الانهيار الشامل يعني أن حكومة البرهان تفتقر إلى الموارد اللازمة لإدارة الدولة وتمويل الحرب، مما يجعلها تعتمد بشكل كلي على المساعدات الخارجية. في هذا السياق، لم تعد مفاهيم السيادة الوطنية والمصالح طويلة الأمد مجرد مبادئ مجردة، بل تحولت إلى أصول قابلة للتفاوض. فعندما تكون قيادة فصيل ما تقاتل من أجل البقاء، تصبح الأصول السيادية، مثل المطالبات بأراضٍ متنازع عليها أو المواقف في السياسة الخارجية، سلعاً يمكن مقايضتها بدعم ملموس يضمن الاستمرارية، مثل الأسلحة والغطاء الدبلوماسي والمساعدات الاقتصادية.
علاوة على ذلك، أدت الحرب إلى استقطاب حاد في المواقف الإقليمية. ففي حين تدعم الإمارات العربية المتحدة قوات الدعم السريع ، تقف مصر بقوة إلى جانب القوات المسلحة السودانية. هذا الاستقطاب يجبر القوات المسلحة السودانية على الانحياز الكامل للمعسكر المصري، حيث لم يعد ممكناً اتباع سياسة خارجية متوازنة كما كان الحال قبل الحرب. هذا التحالف القسري يمنح مصر نفوذاً غير مسبوق، ليس نتيجة إكراه مباشر، بل كأثر طبيعي للواقع الجيوسياسي الجديد الذي فرضته الحرب.
القسم الثاني: مثلث حلايب نزاع قديم في سياق جيوسياسي جديد
يمثل ملف مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد الاختبار الأكثر وضوحاً للعلاقة غير المتكافئة بين مصر وحكومة القوات المسلحة السودانية. فالتقارير التي ظهرت في عام 2025 حول تنازل سوداني محتمل عن المنطقة، تمثل تحولاً جذرياً عن المواقف الوطنية الثابتة التي تبناها السودان لعقود، بما في ذلك الفريق البرهان نفسه. ويُظهر هذا التحول كيف أن حالة الضعف الشديد التي يعانيها السودان قد مكنت مصر من تحقيق مكسب استراتيجي دائم، مقابل دعمها المؤقت والمحسوب.
سياق تاريخي ومواقف متناقضة
يعود النزاع على مثلث حلايب، الذي تبلغ مساحته حوالي 20,580 كيلومتر مربع ، إلى حقبة الاستعمار، حيث تم ترسيم الحدود بناءً على اتفاقيتين مختلفتين: الأولى هي اتفاقية الحكم الثنائي عام 1899، التي حددت الحدود السياسية عند خط عرض 22 شمالاً، مما يضع المثلث داخل الأراضي المصرية. والثانية هي الحدود الإدارية التي رسمتها بريطانيا عام 1902، والتي وضعت المثلث تحت الإدارة السودانية لتسهيل حركة القبائل الرعوية في المنطقة. ومنذ استقلال السودان عام 1956، تمسك كل بلد بالترسيم الذي يخدم مصالحه.
ظلت المنطقة تحت سيطرة مصرية فعلية منذ منتصف التسعينيات، في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، والتي اتهمت القاهرة الخرطوم بالضلوع فيها. وعلى مر السنين، ظل السودان يطالب بسيادته على المنطقة بشكل متكرر، ويدعو إلى اللجوء للتحكيم الدولي لحل النزاع. وقد وصل هذا الخطاب إلى ذروته في أغسطس 2020، عندما صرح الفريق البرهان نفسه بشكل قاطع: “لن نتراجع حتى نرفع علم السودان في حلايب”. في المقابل، كانت مصر ترفض بشكل قاطع أي مفاوضات أو تحكيم دولي، مؤكدة أن حلايب وشلاتين أرض مصرية تخضع لسيادتها الكاملة.
تقارير “التنازل” لعام 2025
في أغسطس 2025، ظهرت تقارير متطابقة في وسائل إعلام عربية، نقلاً عن مصدر فرنسي، تتحدث عن تطور مفاجئ في هذا النزاع المزمن. وكشفت هذه التقارير عن وجود اتفاق بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والفريق البرهان يقضي باعتراف السودان رسمياً بسيادة مصر على المثلث. ووفقاً لهذه المصادر، فإن البرهان، “متجاوزاً صلاحياته الدستورية والبرلمان”، وجه خطاباً في 11 مايو 2025 إلى المفوضية القومية للحدود في السودان، يطلب منها اعتماد خريطة جديدة تضع المثلث ضمن الحدود المصرية.
الأمر الأكثر دلالة هو أن هذا التوجيه جاء في سياق التحضيرات لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين السودان والمملكة العربية السعودية. وهذا يشير إلى أن عملية ترسيم الحدود مع طرف ثالث (السعودية) استُخدمت كغطاء فني وسياسي لتمرير هذا التنازل التاريخي. فترسيم الحدود البحرية يتطلب تحديد نقاط الأساس على الساحل، والاعتراف بالسيادة المصرية على ساحل حلايب يبسط بشكل كبير عملية الترسيم السودانيةالسعودية جنوباً، ويتجنب أي تعقيدات قانونية مستقبلية.
يوضح الجدول التالي التحول الدراماتيكي في الموقف السوداني قبل وبعد اندلاع الحرب، مما يبرز الصراع كعامل حاسم في تغيير الحسابات الاستراتيجية للخرطوم.
هذا التحول لا يمكن تفسيره إلا من خلال فهم السياق الجديد الذي أوجدته الحرب. فما يحدث ليس تفاوضاً بين دولتين متكافئتين، بل هو صفقة بين راعٍ (مصر) وعميل في أمس الحاجة للدعم (قيادة القوات المسلحة السودانية). إن مصر تستخدم هنا ما يمكن تسميته “دليل تيران وصنافير”. ففي عام 2016، استخدمت مصر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الثنائية مع السعودية كآلية لنقل سيادة جزيرتي تيران وصنافير، مما أتاح غطاءً فنياً وقانونياً لقرار سياسي حساس. والآن، يبدو أن مصر تستفيد من تطبيق نفس المنطق، ولكن هذه المرة كطرف مستفيد، حيث يتم استخدام عملية ترسيم الحدود السودانيةالسعودية كذريعة لتمرير تنازل سيادي كبير من جانب السودان.
يكمن جوهر هذه الصفقة في عدم التكافؤ الهائل في المخاطر والمكاسب. بالنسبة للفريق البرهان وقيادة القوات المسلحة، فإن الرهان وجودي؛ فهم بحاجة ماسة للدعم المصري لمنع الهزيمة العسكرية وانهيار سلطتهم. وفي هذا السياق، يصبح التنازل عن أرض متنازع عليها، وتخضع أصلاً لسيطرة مصرية فعلية، تضحية مؤلمة ولكنها عقلانية إذا كانت تضمن البقاء. أما بالنسبة لمصر، فالرهان استراتيجي؛ فتثبيت السيادة على حلايب يؤمن حدودها الجنوبية بشكل دائم، ويعزز عمقها الاستراتيجي في البحر الأحمر، ويمنحها سيطرة لا جدال فيها على الموارد المعدنية والهيدروكربونية المحتملة في المنطقة. وبهذا، تكون مصر قد قايضت دعماً مؤقتاً وقابلاً للاستبدال (مساعدات عسكرية) بأصل استراتيجي دائم (الأرض)، وهو أوضح دليل على استغلالها المحسوب لضعف السودان.
القسم الثالث: الرقصة الدبلوماسية جبهة موحدة ضد إثيوبيا
لم يقتصر نفوذ مصر المتزايد على تسوية نزاع حلايب فحسب، بل امتد ليشمل إعادة تشكيل السياسة الخارجية السودانية بالكامل، وتحديداً فيما يتعلق بالخصم الإقليمي المشترك: إثيوبيا. لقد أدت حاجة القوات المسلحة السودانية الماسة للدعم المصري إلى إنهاء سياسة الخرطوم المتوازنة تاريخياً في قضية سد النهضة، وتحويلها إلى حليف ثابت في المعسكر المصري، مما عزز بشكل كبير من موقف القاهرة في هذا الصراع المائي طويل الأمد.
دبلوماسية مكثفة وتحالف معلن
شهدت الفترة الأخيرة زخماً دبلوماسياً غير مسبوق بين القاهرة وبورتسودان، المقر المؤقت للحكومة السودانية. فقد قام مسؤولون مصريون رفيعو المستوى، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية، بزيارات متتالية إلى بورتسودان. ورغم أن هذه الزيارات تمت تحت غطاء دعم استقرار السودان وتنسيق المساعدات الإنسانية، إلا أن البيانات الرسمية كشفت عن أجندة أعمق. فقد ركزت المباحثات بشكل صريح على “الأمن المائي” وضرورة “مواصلة التنسيق والتعاون الوثيقين لحماية الأمن المائي لكل من مصر والسودان”. هذا التنسيق الوثيق يمثل تحولاً كبيراً عن سياسة السودان قبل الحرب، والتي كانت تتأرجح بين دعم الموقف المصري والاستفادة من المزايا التي يوفرها سد النهضة، مثل تنظيم تدفق النيل وتوفير الكهرباء الرخيصة.
في المقابل، جاءت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى بورتسودان في يوليو 2024 لتكشف عن خطوط التصدع الإقليمية الجديدة. ففي حين تم تقديم الزيارة كجهد وساطة، إلا أنها جاءت في ظل تقارير تشير إلى أن آبي أحمد كان يُنظر إليه على أنه أقرب إلى قوات الدعم السريع، المدعومة من الإمارات، حليفة إثيوبيا. وبالتالي، فإن هذه الزيارات المتبادلة لا تعكس جهود وساطة نزيهة، بل هي محاولات من قبل معسكرين متنافسين لتعزيز نفوذهما في السودان المقسم: محور مصريسوداني (القوات المسلحة) في مواجهة محور إماراتيإثيوبيسوداني (قوات الدعم السريع).
من التحفظ إلى المواجهة: الموقف الموحد من سد النهضة
كانت النتيجة الأكثر وضوحاً لهذا التحالف هي تبني السودان الكامل للموقف المصري المتشدد تجاه سد النهضة. ففي سبتمبر 2024، شنت مصر هجوماً دبلوماسياً واسعاً ضد إثيوبيا بعد إعلانها عن الملء الخامس للسد، ووجهت خطابات شديدة اللهجة إلى مجلس الأمن الدولي ترفض فيها “السياسات الإثيوبية الأحادية” وتصفها بأنها تهديد للاستقرار الإقليمي. والأهم من ذلك، أن هذه الخطابات أكدت أن السياسات الإثيوبية “سيكون لها آثارها السلبية الخطيرة على دولتي المصب مصر والسودان” ، مما يظهر جبهة موحدة لم تكن موجودة بهذه القوة من قبل.
لقد انتهت فعلياً قدرة السودان على ممارسة “التحوط الهيدروليكيالسياسي”. فاعتماده المطلق على مصر في مواجهة قوات الدعم السريع المدعومة من حلفاء إثيوبيا، لم يترك له أي خيار سوى التخلي عن موقفه التفاوضي المستقل والانضمام بالكامل إلى الرؤية المصرية. وبهذا، نجحت مصر في تحويل الحرب الأهلية السودانية إلى ورقة ضغط فعالة في نزاعها المائي مع إثيوبيا، وكسبت حليفاً قوياً في مجرى النهر، ليس عن طريق الإقناع الدبلوماسي، بل كأحد الآثار الجانبية للصراع الإقليمي بالوكالة.
استراتيجية “التطويق” المصرية
لم تكتفِ مصر بتأمين الجبهة السودانية، بل وسعت من استراتيجيتها لتشمل ما وصفته وسائل إعلام إثيوبية بمحاولة “محاصرة إثيوبيا”. وتتضمن هذه الاستراتيجية تعزيز العلاقات العسكرية والأمنية مع جيران إثيوبيا الآخرين. ففي الأشهر الأخيرة، وقعت مصر اتفاقية عسكرية مع الصومال، وتحدثت تقارير عن خطط لإرسال قوات مصرية إلى هناك، وهو ما أثار قلق أديس أبابا. كما كثفت مصر من تنسيقها الأمني مع إريتريا، الخصم اللدود لإثيوبيا.
هذه التحركات تحول نزاع سد النهضة من قضية ثلاثية الأطراف إلى مواجهة بين تكتلات إقليمية. فمصر، من خلال استغلال ضعف السودان وتوظيفه كنقطة ارتكاز، تعمل على بناء تحالف جيوسياسي من الدول التي تشعر بالقلق من طموحات إثيوبيا الإقليمية. وهذا يرفع مستوى الضغط على أديس أبابا بشكل كبير، حيث لم يعد التهديد يقتصر على المسارات الدبلوماسية والقانونية، بل أصبح تطويقاً استراتيجياً منسقاً. وكان ضعف الدولة السودانية هو الخطوة الأولى الحاسمة التي مكنت مصر من بناء هذا التحالف الجديد.
القسم الرابع: يد الراعي قياس الدعم المصري للقوات المسلحة السودانية
إن المكاسب الاستراتيجية التي حققتها مصر، سواء في ملف حلايب أو في مواجهة إثيوبيا، لم تأتِ من فراغ. بل كانت المقابل لدعم سياسي وعسكري حاسم قدمته القاهرة لقيادة القوات المسلحة السودانية، وهو الدعم الذي شكل شريان حياة منع انهيارها في مواجهة قوات الدعم السريع. لفهم ديناميكية هذه العلاقة، لا بد من تفصيل طبيعة هذا الدعم وحجمه، والذي يمثل “المقابل” الذي دفعته مصر ثمناً لـ”الثمن” الذي حصلت عليه.
الدعم السياسي والدبلوماسي المعلن
على الصعيد العلني، تبنت مصر مقاربة ثابتة تقوم على دعم القوات المسلحة السودانية باعتبارها “إحدى مؤسسات الدولة الوطنية” والممثل الشرعي للسلطة في السودان. وعملت القاهرة بنشاط في المحافل الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي، من أجل تسهيل استئناف السودان لأنشطته ورفع تعليق عضويته، وهو ما يمثل دعماً دبلوماسياً مهماً لحكومة بورتسودان. بالإضافة إلى ذلك، تحملت مصر العبء الأكبر لأزمة اللاجئين الناتجة عن الحرب، حيث استقبلت مئات الآلاف، بل ملايين، من المواطنين السودانيين الفارين من الصراع، وقدمت لهم تسهيلات في الإقامة والرعاية، رغم التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر نفسها. هذا الموقف الإنساني والسياسي عزز من صورة مصر كحليف لا غنى عنه في نظر قيادة القوات المسلحة.
الدعم العسكري السري
خلف ستار الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية، تشير مجموعة كبيرة من التقارير الموثوقة إلى وجود دعم عسكري مصري كبير ومستمر للقوات المسلحة السودانية، رغم النفي الرسمي المتكرر من القاهرة. هذه التقارير، التي وردت في وسائل إعلام غربية مرموقة مثل “وول ستريت جورنال” ومراكز أبحاث ومصادر إقليمية، ترسم صورة لدعم متعدد الأوجه يشمل:
-
الطائرات المسيرة: قامت مصر بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة تركية الصنع من طراز “بيرقدار TB2″، والتي لعبت دوراً حاسماً في تغيير موازين القوى في بعض المعارك. كما تم تدريب طواقم سودانية على تشغيل هذه الطائرات في مصر.
-
الدعم الجوي المباشر: اتهمت قوات الدعم السريع مراراً سلاح الجو المصري بتنفيذ ضربات جوية مباشرة على مواقعها، خاصة في مناطق استراتيجية مثل جبل موية بولاية سنار، وهو ما نفته القاهرة رسمياً.
-
الأسلحة والذخائر: تفيد التقارير بفتح ممر إمداد بري عبر منطقة وادي حلفا الحدودية، يستخدم لنقل الأسلحة والذخائر إلى القوات المسلحة السودانية. كما وجهت اتهامات بتزويد الجيش السوداني بطائرات مقاتلة من طراز K8 وذخائر متنوعة.
-
الدعم الاستخباراتي والتنسيق: أرسلت مصر خبراء في الاستخبارات العسكرية إلى بورتسودان للمساعدة في تنسيق العمليات وتقديم المشورة لقيادة الجيش السوداني.
وقد استغلت قوات الدعم السريع هذه التقارير والاتهامات بشكل مكثف في خطابها الإعلامي. فقد صرح قائدها، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، بشكل متكرر بأن مصر تتدخل عسكرياً بشكل مباشر في الصراع، محاولاً من خلال ذلك تبرير الهزائم التي منيت بها قواته في بعض الجبهات، وحشد الدعم لصفه.
هذه المعطيات تكشف عن استراتيجية مصرية ذات مسارين، قائمة على “الإنكار المقبول”. ففي العلن، تحافظ مصر على صورة الدولة المسؤولة التي تدعو إلى السلام وتلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. أما في السر، فإنها تقدم دعماً عسكرياً محسوباً يضمن تحقيق أهدافها الأمنية. هذا النهج المزدوج يسمح لها بإدارة التداعيات الدبلوماسية المحتملة، مع مواصلة سعيها الحثيث لتأمين مصالحها الحيوية.
إن الهدف الحقيقي من هذا الدعم قد لا يكون تحقيق نصر كاسح وسريع للقوات المسلحة السودانية، بقدر ما هو منع انتصار قوات الدعم السريع. فمن منظور القاهرة، يمثل انتصار قوات الدعم السريع تهديداً وجودياً، لأنه يعني قيام دولة فاشلة على حدودها الجنوبية، تديرها ميليشيا غير نظامية لها ارتباطات وثيقة بخصوم مصر الإقليميين (مثل الإمارات) وتاريخ من الأنشطة غير المشروعة عبر الحدود. أما استمرار الصراع لفترة طويلة، رغم أضراره، فهو وضع يمكن إدارته طالما ظلت القوات المسلحة السودانية تسيطر على الحدود الشمالية والمناطق الحيوية لمصر. وبالتالي، فإن الدعم المصري يتم معايرته بدقة ليس بالضرورة لمساعدة الجيش السوداني على “كسب” الحرب، بل لضمان عدم “خسارته” لها. إنها استراتيجية استنزاف واحتواء ضد قوات الدعم السريع، وهي الاستراتيجية التي تمنح مصر أقصى درجات النفوذ على حليف يعيش في حالة اعتماد دائم.
القسم الخامس: الخاتمة هيمنة، انتهازية، أم ضرورة استراتيجية؟
لقد أثبتت المعطيات أن سياسة مصر مدفوعة في المقام الأول بالضرورة الاستراتيجية. فالانهيار شبه الكامل للدولة السودانية (القسم الأول) خلق فراغاً أمنياً هائلاً على حدود مصر الجنوبية الطويلة، وهدد بنشوء كيان معادٍ تديره ميليشيا مدعومة من خصوم مصر الإقليميين. هذا السيناريو يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، مما حتم على القاهرة التدخل لمنع وقوعه. فمن منظور مصري، استقرار السودان تحت قيادة مؤسسة عسكرية نظامية، حتى لو كانت ضعيفة، أفضل من فوضى شاملة أو سيطرة قوات الدعم السريع.
هذه الضرورة الملحة هي التي خلقت الفرصة السانحة. فاعتماد القوات المسلحة السودانية الوجودي على الدعم المصري السياسي والعسكري (القسم الرابع) منح القاهرة نفوذاً غير مسبوق. وقد استغلت مصر هذا النفوذ ببراعة لتحقيق أهداف طالما استعصت عليها. فقد تمكنت من الحصول على تنازل تاريخي محتمل في نزاع مثلث حلايب، مستخدمة عملية ترسيم الحدود مع السعودية كآلية فنية لتمرير قرار سياسي كبير (القسم الثاني). كما نجحت في إجبار السودان على التخلي عن سياسة الحياد في قضية سد النهضة، وتوحيد جبهة دول المصب ضد إثيوبيا، بل واستخدام السودان كنقطة ارتكاز في استراتيجية أوسع لتطويق إثيوبيا جيوسياسياً (القسم الثالث).
والنتيجة النهائية لهذه الديناميكية هي شكل من أشكال الهيمنة البراغماتية. هيمنة لا تنبع من طموحات استعمارية قديمة، بل من الواقعية القاسية التي تفرضها علاقة غير متكافئة بين طرفين، أحدهما يقاتل من أجل البقاء والآخر يسعى لتأمين مصالحه الاستراتيجية الدائمة. لقد قايضت مصر دعماً مؤقتاً ومحسوباً بمكاسب جغرافية وسياسية دائمة، وهو جوهر أي علاقة هيمنة.
ومع ذلك، فإن هذا الترتيب الذي صنعته الحرب يظل هشاً للغاية ومستقبله محفوف بالمخاطر. فهو يعتمد بشكل كامل على استمرار الصراع وبقاء القوات المسلحة السودانية في حالة اعتماد على القاهرة. وأي تغيير جوهري في المشهد السوداني، سواء بانتصار أحد الطرفين أو التوصل إلى تسوية سياسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية أكثر استقراراً، سيغير هذه المعادلة. فمن المرجح أن أي حكومة سودانية مستقبلية، تتمتع بقدر أكبر من الشرعية والسيادة، ستجد حوافز وطنية قوية للطعن في التنازلات التي قدمتها قيادة البرهان تحت ضغط الحرب. وقد يتحول ملف حلايب، على وجه الخصوص، من صفقة هادئة إلى رمز للخيانة الوطنية، مما قد يسمم العلاقات المصرية السودانية لعقود قادمة. وبهذا، فإن المكاسب التي حققتها مصر اليوم قد تكون بذور أزمات المستقبل.
المصدر: صحيفة الراكوبة