تعمل القاهرة على محاصرة أديس أبابا بشبكة قوية من العلاقات مع دول حوض النيل، ودول مجاورة في الإقليم، بعضها له طابع عسكري واستخباراتي، والآخر اقتصادي وتنموي، بعد أن مضت إثيوبيا في تنفيذ مشروع سد النهضة دون اتفاق مُلزم مع القاهرة.

ويمكن فهم أبعاد زيارة رئيس أوغندا يويري موسيفيني إلى القاهرة الثلاثاء واستقبال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي له بحفاوة في هذا السياق، وبما يؤكد أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به رجل أوغندا القوي في تقريب المسافات بين القاهرة وأديس أبابا، ولذلك كان ملف مياه النيل محل نقاش طويل بين الرئيسين.

وفي المؤتمر الصحفي المشترك بينهما أكد الرئيس المصري الرفض الكامل للإجراءات الأحادية في حوض النيل.

وقال السيسي “إن من يعتقد أن مصر ستغض الطرف عن حقوقها المائية فهو مخطئ،” مشددًا على أهمية المياه والتنمية لدول حوض النيل، وأن مصر لا تعارض تحقيق أي تنمية للشركاء والأشقاء في دول حوض النيل، شريطة عدم تأثير المشاريع التنموية على حصة المياه التي تصل إلى مصر.

وجرى الإعلان عن هذه المعادلة منذ مدة طويلة، لكن لم يستمع إلى ذلك كثيرون، حيث روجت إثيوبيا أن رفض مصر بناء سد النهضة هو رفض واضح للتنمية أيضا، وهي فكرة انتشرت، بما أدى إلى تقليص الاستماع إلى رؤية القاهرة وعدم محاولة المساعدة على إيجاد حل مناسب، وتسابق كل طرف في توسيع نطاق علاقاته، بما جعل الأزمة تبارح مكانها الخاص بكونها أزمة مائية إلى وضعها في إطار أمني وسياسي بعيد.

وطورت مصر علاقاتها مع كل من الصومال وإريتريا والسودان ورواندا وتنزانيا، وكلها دول مجاورة لإثيوبيا، ووسعت تعاونها مع عدد كبير من دول حوض النيل للضغط على أديس أبابا وإجبارها على التفاهم، ومن هذه الدول أوغندا التي لها باع طويل في ملف المياه تاريخيا، ويمكنها أن تلعب دورا مؤثرا، إن لم يكن في إقناع إثيوبيا بالتفاهم مع مصر فعلى الأقل يمكنها تطويق محاولات التمادي في بناء سدود على نهر النيل وروافده الحيوية، وهي مشكلة تؤرق مصر، فسد النهضة قد يكون بداية لسلسلة من السدود، والتي تحجز كميات كبيرة من المياه خلفها.

وتتحدث مصر والسودان عن حوالي 85 مليار متر مكعب حصتهما من مياه النيل، وتمثل نحو 4 في المئة من إجمالي المياه ويريدان التعاون مع الكل لتحقيق الاستقرار.

وقال السيسي إن بلاده ليست لديها موارد أخرى من المياه، ولا تهطل عليها كميات كبيرة من الأمطار، “ولو تخلينا عن هذا الجزء فهذا يعني أننا نتخلى عن حياتنا،” وهي رسالة صبغت بطابع عاطفي أكثر منه تهديديا، لأن الخشونة لم تعد واردة في الخطاب المصري، تلميحا أو تصريحا، بعد أن أصبح سد النهضة واقعا، وسوف يتم افتتاحه نهاية العام الجاري، وأي مساس به يؤدي إلى أضرار مائية بالغة الخطورة على السودان، الذي قد تتعرض أجزاء كبيرة من أراضيه للغرق، وأي استهداف عسكري يفسح المجال لصراعات أخرى في المنطقة، وهو أمر رفضت مصر الانجرار خلفه.

وتعول القاهرة على جهود اللجنة السباعية برئاسة أوغندا للتوصل إلى توافق فني، وهي دول حوض النيل الشرقي والاستوائي، وتتكون من كينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وإثيوبيا وجنوب السودان، ومعها أوغندا رئيسا.

وصبغ ملف المياه بتعقيدات إقليمية ودولية مختلفة، وآخرها توجيه الرئيس دونالد ترامب اللوم إلى الإدارة الأميركية السابقة بزعم أنها شاركت في تمويل سد النهضة، وتلميحه لمساعدة مصر على إيجاد حل، وهو ما ثمنته القاهرة دبلوماسيا، لكنها لا تراهن عليه، فقد يكون فخا، بعد تحول هذا الملف إلى أداة للضغط على الحكومة المصرية.

وأوضح الرئيس السيسي صراحة في لقائه مع موسيفيني أن ملف المياه “يمثل جزءًا من حملة الضغوط على مصر لتحقيق أهداف أخرى، نحن مدركون لهذا الأمر،” مشيرا إلى أن “القاهرة تقف دائما ضد التدخل في شؤون الآخرين، أو الهدم والتدمير أو التآمر على أحد، وتسعي للبناء والتنمية، ونحن الأفارقة كفانا ما عانيناه من اقتتال.”

وجاءت زيارة موسيفيني والوفد المرافق له إلى القاهرة بعد زيارة قام بها وزير الخارجية بدر عبدالعاطي ووزير الموارد المائية والري هاني سويلم إلى كمبالا يومي الثالث والرابع من أغسطس الجاري، وتم الاتفاق على تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الدفاع والأمن وبناء السلام ومكافحة الإرهاب، والتعاون الفني في إدارة الموارد المائية.

وأكد الوفد المصري استعداده لتمويل وتعبئة التمويل اللازم للبنية التحتية المرتبطة بالمياه في حوض النيل بأوغندا، لتحقيق المنفعة المتبادلة، وعدم إلحاق ضرر بالآخر، من خلال آلية التمويل المصرية الجديدة لتمويل المشروعات بحوض النيل، والتشاور المنتظم حول مياه النيل بهدف التوصل إلى اتفاق يحقق المنفعة المتبادلة والتعاون في حوض النيل، وفقًا للقانون الدولي وأفضل الممارسات.

ويقول مراقبون إن مصر لم تتأثر كثيرا ببناء سد النهضة حتى الآن، لكنها دفعت ثمنا ماديا باهظا لتجنب وقوع أضرار بالغة عليها خلال السنوات الماضية، وهو ما تتجاهله إثيوبيا، وتقول إنها راعت فكرة عدم الإضرار، دون التفات إلى الكلفة التي تحملتها القاهرة، في مشروعات تحلية المياه وإعادة تدوير مياه الصرف وتبطين الترع والمصارف ووقف الهدر ومنع زراعة محاصيل تحتاج إلى مياه وفيرة.

ويضيف هؤلاء المراقبون أن تطوير العلاقات مع أوغندا وغيرها من الدول الأفريقية هو تصحيح لخطأ سابق، يتعلق بابتعاد القاهرة عن الكثير من هموم القارة، وليس الغرض منه فقط الضغط على إثيوبيا، ففي ظل اهتمام قوى عديدة بالقارة من المهم أن تتبنى مصر مقاربة جديدة تضفي طابعا قويا على علاقاتها مع الدول الأفريقية عامة، ولا يقتصر هذا التوجه على دول حوض النيل، بل يمتد من شرق القارة إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.