زهير عثمان حمد
في قلب هذا الجحيم السياسي والاجتماعي الذي نعيش فيه، يتجلى التشريح الفلسفي والواقعي لعقلية المثقف السوداني، التي تحولت إلى مفارقة متناقضة، نصفها في اللاوعي ونصفها الآخر في غيبوبة الاختيار.
هنا حيث يستعر الصراع بين:وعي بالواقع المرير،وخوف من مواجهة الحقيقة،ورغبة جامحة في التمويه خلف الأقنعة الثقافية.
الجسد الأنثوي ميدان معركة السلطة واستعباد الروح
الجسد الأنثوي في بلادنا ليس حكاية عن امرأة بقدر ما هو سرد عن موت الأمة وهو يتسلل عبر الحميمية، إذ تحولت الأنثى إلى “رسم بياني” سياسي يُدار مثل وزارة، تُعطى وتُسلب كامتيازات بيروقراطية، لا كإنسان يملك كرامته وحريته.
هذا التشويه الجسدي والروحي هو انعكاس مريع لعقلية السلطة التي تمارس القهر من خلال أسوأ أشكال الهيمنة، متجاوزة كل القيم الإنسانية لتفصل الجسد عن الذاتوالأنثى عن إنسانيتها، محولة إياها إلى مجرد أداة طيعة لخدمة رجالات “الدولة”.
المثقف السوداني بين التواطؤ والتمرد الكاذب
أنت، يا مثقف السودان، أصبحت قطعة من لعبة استبدادية تكتيكية.
عقلك في أحسن حالاته متحف للعبارات الفضفاضة التي تتردد في الأروقة الأكاديمية، لكنها بلا تأثير ميداني.
وفي أسوأ حالاته، أداة طيعة تسرّب المعلومات للنظام، تزيّن له وجه القبح، وتُلهي الجماهير بجدليات لا تنقذ.
أنت تتحدث عن الحرية والكرامة، وأنت تسكت عن النساء اللاتي يُشحنّ كالسلع، عن الفساد الذي ينهش جسد الوطن، وعن الدم الذي يُسكب في الشوارع بلا حساب.
لغتك مسكونة بالمهادنة والرياء، تغطي على واقع قاتم من الخضوع والخيانة.
فلسفة القوة والهيمنة دروس من فوكو وهيغلالمثقف الذي لا يفهم أن “السلطة معرفة”، كما قال فوكو، هو مثقف ضائع.
السلطة لا تُمارس فقط من خلال القوة الجسدية، بل من خلال التحكم في الخطاب، في الجسد، وفي الرغبات.
لذا فإن جسد المرأة السودانية ليس فقط “جسدًا”بل هو موقع نزاع استراتيجي لصراع أعمق على السيادة والحرية.
هيغل علمنا أن التاريخ هو صراع الوعي بالذات، وأن التحرر الحقيقي لا يأتي إلا عبر مواجهة “الآخر” الظالم.
لكن المثقف السوداني ما زال يهرب من “الصراع” ويتخذ مواقف مترددة، رافضًا أن يكون فاعلاً ثوريًايُعيد تشكيل الوعي الجماعي، مقدمًا حوارات هامشية، بينما الوطن يحترق.
التمرد الصادم لغة الجرح والانتفاضةحين يُسكّت صوت الأنثى، يُسكّت صوت الوطن.
حين يُقتل الحب، يُقتل المستقبل. تمرد المثقف يجب أن يكون خارج القوالب اللغوية المكررة، تمردًا صادمًا يعيد الاعتبار للغضب كوقود للتغيير.
*ليس المطلوب أن نكون مجرد ناقلين للآلام، بل أن نكون صناع أزمات في النظام القائم، نعري التواطؤ، ونفجر صمت الرعب.
يجب أن نعيد الكلمة من قبورها، ونزرع الفوضى الإبداعية التي تقتلع جذور الفساد والجمود.
المأزق الوجودي إما الثورة أو الموت البطيءالمثقف السوداني اليوم بين مطرقة الاستلاب الفكري وسندان الخضوع الاجتماعي.
إما أن يُعيد بناء وعي الجماهير ويقود تمردًا ثقافيًا حقيقيًا، أو يصبح شاهد زور على مأساة لم يُحرك ساكنًا.
التمرد ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية. حرب على العقل والروح، على الجسد والذاكرة، على الحب والحرية.في السودان، إما أن نثور بكل عناويننا، أو نموت بصمت نفايات التاريخ.حقيقة هذا هو موعد الوعي أو القبر، وللمثقف الاختيار.
واليك هذا القصيد من وحي المقال
في قُرى الوجعِ نامَ الصَّوْتُ والسَّفَرُوالنَّارُ في القلبِ لكنْ يَنخَرُ الحَذَرُ
“يا أيُّها المُثقَفُ” السُّودانُ يسألُكم أينَ الثَّوَابِتُ في سِفْرٍ لها قَدَرُ؟
هل الجسدُ الأنثويُّ الآنَ في بَلَدي صَفْحٌ يُدارُ كَـ”وزارةٍ” لها سَهَرُ؟
تُباعُ كالسلعةِ الرَّخيصةِ في سوقٍ وتُسْتَبَاحُ كَـ”كِرْسِيٍّ” لهُ خَطَرُ؟
يا أيُّها الشَّاعِرُ المَخذولُ في لُغَةٍهل النِّساءُ على الجُدرانِ تُحْتَضَرُ؟
أينَ التَّمَرُّدُ في عَيْنٍ رَأَتْ دَمَنَايَسِيلُ في الشَّارعِ الدَّامي ويَنْقَهِرُ؟
أينَ الفَخارُ الذي كُنَّا نُردِّدُهُأينَ القَصَائِدُ أمْ قد سَكَنَها القَبْرُ؟
تتكلَّمُونَ عنِ الحُرِّيَّةِ في قُصَرٍوالوطنُ يَلْبَسُ ثوبَ الذُّلِّ ويَنكَمِشُ!
تتكلَّمُونَ عن الكرامةِ في حُلُمٍو “الوَطنُ” يُقْتَلُ في مَيدانٍ لهُ شَهَرُ!
يا أيُّها القلمُ المسجونُ في أَمَلٍقَبْلَ النِّضَالِ، قَدْ سُلِبَ الوَطَنْ!
قد أَيُّهَا السُّودانُ، يا أَرضَ مَآتِمِنَاقد غادرَ الجَّرحُ أصحاباً فهل يَنْتَصِرُ؟
يا سُّودانُ يا صُوتَنا الغَائِبَ هل أنتَ تَنْتَظِرُ الثُّوَارَ، أمِ الثُّوَارُ هُمْ في انتظارك !
المصدر: صحيفة الراكوبة